الطفل والربيع


عندما سنحت لي الفرصة أن أكتب عن اندلاع شرارته (الربيع العربي)..... لم أكن أعلم وقتها أن ذلك الزائر الذي انتظرناه طويلاً ، لننعم بخيراته وبركاته سوف يجني لنا زهوراً وثمارا لاتسمن ولا تغني من جوع ... أصبحت بعد ذلك وباءً وبؤسا على الذين استبشروا بقدومه خيراً ...وإن كانت قليلة فنحن من ارتضينها لأنفسنا أن نرضى بالفتات؟!!!.... لا بالكثير ،لأننا شعوب مضطهدة، سلبت منا الحرية والإرادة ..... نلهث وراء حفنات من الدراهم من أجل عيشة ساذجة، لكن للأسف، أي شيء من ذلك لم يحصل ..... فالمرحب به (الربيع العربي) بدا غير ذلك ..... أشجارنا وبساتيننا وحقولنا وغاباتنا.... وشذى أقحواننا ،وزهور ياسميننا ذهبت أدراج الريح... فقد اقتلعت جذورها، ولم يبق شيء منها..... كما أنني لم أدرك إلا اليوم في هذه اللحظة التي أكتب مقالي فيها أن ذلك (الربيع) سوف يصل إلى عقول أبنائنا فلذات أكبادنا الذين نغرس فيهم كل يوم القيم والعادات والصفات النبيلة والأخلاق الكريمة .

ومن هنا تبدأ القصة...... تلك القصة التي سوف يسجل لها التاريخ مشهدا معبأ بالحزن والندم، فالأمر اليوم مختلف تماما عما كانت عليه الطفولة في الأمس البعيد!!! فقد بدأت القصة معي عندما رأيت مجموعة من الطلبة قد تسابقوا في رسم الرسومات التي تمجد قتل الأطفال، وحرق الأشجار وقطعها، لا بل ذهب البعض إلى أبعد من ذلك، من خلال قيامه برسم أزهارا للربيع بلمسة محروقة تشتعل فيها النيران، ومجموعة أخرى ترسم أشجاره مقطوعة الرأس، متساقطة الأوراق، والغريب هنا أنني في بداية الأمر لم أكن أدرك حقيقة أن أطفالاً في عمر الزهور قد استلهموا تلك الرسومات المخيفة والقبيحة من تلك المشاهد والأحداث التي نشاهدها كل يوم عبر أعلامنا من تلفزيون وصحافة، وكغيري من الذين استجذبتهم تلك المشاهد ، استلهمني ما يكتبوه ويرسموه في حجرة الصف التي أصبحت مظلمة بصورة كبيرة بعد مشاهدتي لتلك الرسومات التي اعتلتها في مقدمة الصفحة مشاهد اللون الأحمر ،وظهوره بشكل لافت.

ففي البداية لم أكن أدرك أن تلك الألوان التي يستخدمها طلبتي بشكل لافت في الرسم قد أصبحت تعبر عن القتل، والتدمير ،والبطش، والخوف، والبؤس الذي تعاني منه مجتمعات عربية ،لابل دول عربية والجارة سوريا واحدة من تلك الدول التي أشبعها الربيع العربي لا بل الوحش العربي تدميرا وبطشا، فما يحصل في سوريا نجده اليوم قد استحوذ على عقول أبنائنا الأعزاء الذين نبذل الغالي والنفيس من أجلهم وطلبتي في غرفة ذلك الصف المظلم فهم مجموعة من تلك المجموعات الموجودة في تلك الغرف يرسمون، لكن رسومات تجعلك تقف حائرا متوسلا لذلك الوحش في عدم الوصول إلى عقول أبنائنا، حتى لا يصبحون فريسة سهلة يستطيع أي وحش أو أي مفترس التهامهم ،وعدم الالتفات إلى طفولتهم البريئة التي سرقت منهم قبل أن يعيشوا تلك اللحظة ،هنا انتهت القصة.. أما قصة الربيع العربي فهي مستمرة لا تنتهي.....

ولعل شبح الربيع وما يحويه من قتل ودمار وبطش لم يقتصر تأثيره على التدمير والبطش بالشعوب العربية فقط ، إنما ساهم بصورة كبيرة بجعلها شعوباً تتقاتل فيما بينها لمجرد القتل، ولمجرد البطش ولمجرد التدمير والخراب، لا بل أصبح ما أتكلم عنه أشبه بالكابوس المخيف الذي تقشعر منه الأبدان لمجرد ذكره، لابل أصبح عند البعض وحشا مفترسا يأكل الأخضر واليابس مثلما يقولون....

وحقيقة في بداية المطاف لم أكن أعلم أن ذلك الضيف الثقيل قد يحدث كل هذا وذاك من تغيرات جذرية غير مرغوبة، بل زيادة على ذلك أصبح في نظر ي ونظر الغير ضيفا غير مرحب به ، وداءً تنزعج منه الشعوب العربية لمجرد ذكره،واستلهام خطره المحدق، حيث أصبح ذلك الوحش المفترس يتجول بين الحقول والقرى يفترس كل من يلقاه في طريقه لا يفرق بين طفل بريء وشيخ كبير وامرأة، حتى الذين رحبوا به واعتبروه ضيفا، أصبحوا يتخوفون منه، بل يختبئون منه اختباء الفريسة من قبضة الأسد، فهو حقيقة داء أصاب الشعوب العربية،فهو وباء ليس له دواء ولا علاج، إلا باقتلاعه من جذوره، وللأسف، إن الشعوب العربية غير مؤهلة لغاية هذه اللحظة- إن جاز التعبير- في معالجة الأمر، أو بالأحرى ،على أقل تقدير، حماية عقول أطفالنا من تلويثها بمعتقداته الخبيثة التي ذكرناها في سياق المقالة.

كما أن المحللين السياسيين يرون أن الربيع العربي قد جاء بسياسات وتغيرات وأفكار سلبية غير محمودة العواقب، مبرزين بذلك أنهم كذلك ...ليسوا ضد هذه التغييرات السياسية والحقيقية والمشروعة في هذه الدول التي غزاها الربيع العربي ،التي أرهقتها سياسات حكامها المبنية على الظلم والاستبداد ،وعدم احترام أراء الشعوب ،والسطوة على الحكم بصورة منافية للديمقراطية،لا بل أجمعوا على وقوفهم مع تلك الشعوب المطالبة بالحرية، لكن شريطة ألا يكون العنف والقتل في تلك الدول يفوق ثمار وايجابيات الربيع العربي ،عندها تكون الحالة الأولى زمن تلك الأنظمة أفضل حالا مما يكون مستقبلاً.

كما أن الشعوب العربية فهمت الربيع العربي على أنه الانتقام والسطوة من الآخرين في ظل غياب سياسة التسامح ،مما أوجد حالة من الفوضى ،وعدم احترام حقوق المواطنين، وبالتالي ضياعنا بين مطرقة حكم واستبداد الأنظمة الاستبدادية ،وطموحات الشعب في الربيع العربي المليء بالأشواك، ونحن قادرون على جعل ربيعنا العربي ضمن طموح الشعوب وفكرهم، لكن من خلال كما قلنا سابقا الفهم الصحيح للربيع العربي، باعتباره قد جاء لنا من اجل القضاء على الفساد والركود الاقتصادي، وسوء الأحوال المعيشية للشعب ،وكذلك جاء أملا في القضاء على الأنظمة المستبدة التي أرهقت الشعب، واستنزفت خيراته وأمواله ،وكذلك بالإضافة إلى أنه جاء من أجل المطالبة بالديمقراطية التعددية ،ومعالجة مشاكل الفقر والبطالة ،إلا أنه ليس كذلك ؛لما نراه اليوم في هذه الدول التي ذكرناها لكم، بل العكس أصبح الربيع العربي فاتورة وضريبة كبيرة سوف تدفعها الشعوب العربية لغياب الفهم والمعرفة الحقيقية لما أوجده الربيع العربي، وبالتالي ضياعنا في متاهات كثيرة أول بوادرها ما نشاهده حاليا في تلك الدول التي غزاها شبح الربيع العربي.

ومجمل القول :

إن الربيع العربي الذي بدأ بتونس ومصر وليبيا واليمن ، وانتهاء بسوريا ، قد عزز سياسة الظلم والاستبداد والتشريد والقتل ؛ فالأنظمة العربية المستبدة فهمت الربيع العربي على أنه الاعتداء على أنظمتها الديكتاتورية، بحيث أخطأت في فهمها لهذا التصور، وكذلك فعلت الشعوب العربية كما فعلت تلك الأنظمة حيث أساءت في فهمها وإدراكها لمفهوم الربيع العربي ؛ فقد أدركت تلك الشعوب المتعطشة إلى حب الانتقام على أنه السطوة والتمرد على تلك الأنظمة، لا بل الدخول معها في صراع مرير ،وإن تطلب ذلك اللجوء إلى القتل والظلم لتحقيق تلك المآرب.

كما أن الربيع العربي أحدث حالة من الفوضى والدمار عند تلك البلدان والدول التي غزاها ؛ فقد أثقل كاهل تلك الشعوب التي تنادي بالحرية ومحاربة الفساد والظلم ، فبدا لنا الربيع ليس كما كنا نتوقعه حاملا معه الأزهار ورائحة الياسمين، وأجوائه العطرة المليئة بالمشاعر والحب والأحاسيس النبيلة، لا حاملا معه إلينا القتل والظلم ، فقد أصبحت الشعوب العربية تنفر منه ولمجرد السماع به فهو حقاً ضيف غير مرحب به ؛ فهو ربيع القتل والدمار والبطش والاستعلاء على الحق،ونصرة الظالم على حساب المظلوم الذي أشبع في الماضي ظلما وبؤسا من تلك الأنظمة الفاسدة التي جعل منها الربيع العربي أنظمة مستبدة وظالمة زيادة على ما كانت عليه في السابق من جور وظلم.

وبناءً على ما تقدم :

أرى من وجهة نظري الخاصة، من خلال متابعتي لتلك الأحداث التي حدثت بعد مجيء الربيع العربي أرى أن الربيع العربي هو محصل طبيعي لتلك الأحداث التي حدثت في الماضي، من قيام الأنظمة العربية من خلال جعل تلك الشعوب تركع تحت وطأة الظلم والاستعباد، والقهر والبؤس، كما أنه محصلة وردة فعل طبيعية لما قامت به الأنظمة العربية من الالتفات على الشرعية الدولية، وتهميش الديمقراطية ،وجعلها ألعوبة في أيدي الغرب يتحدثون عنها في أي وقت شاءوا..إذا أحسوا أن تلك الأنظمة قد بدت فيها صراعات الصحوة إلى عدم التوجه إلى الغرب باعتباره نهجا وحلا يطالب به معظم الشعوب العربية .

كما أرى من وجهة نظر أخرى في أن الشعوب العربية غير مؤهلة أن تكون مستعدة في أن تجني ثمار الربيع العربي بل العكس، أصبح ذلك الربيع العربي أداه سلبية في أيدي تلك الشعوب المنادية بالحرية والاستقلال، فهي رأت فيه فرصة سانحة للإساءة إلى مقدرات وإنجازات الدول العربية ككل بغض النظر عن الاتفاق معها او عدمه ، بحيث أصبحت الشعوب العربية أكثر فظاعة وظلما وقهرا من تلك الأنظمة التي قام من أجلها ذلك المسمى بالربيع العربي.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات