الثقافه وشباب المستقبل العربي


المثقفون اليوم حائرون، والثقافة العربية في اضطراب. هبّ "الربيع العربي" عليهم وهزّ وجدانهم، فهتفوا لأجله، وانخرطت كثرة منهم في ميادينه قادة ومنظرين.
وعندما تحول هذا "الربيع" إلى شتاء دام في بلد، وصيف ساخن في آخر، وظهرت نزعات نكوصية هنا، وثورة مضادة هناك، وحروب ارتجف لها الإقليم وفاجأت بدمويتها العالم، ومحاولات للهيمنة في غير بلد عربي من جانب قوى سياسية وأيديولوجية اختطفت انتفاضات الشباب العربي، محاولة تجيير قوة الميادين لأجل مصالحها الحزبية والأيديولوجية، للهيمنة على الدولة وفرض مشروعها الضيق على الجموع والمجتمعات، تبلبلت الأوضاع العربية أكثر فأكثر، بفعل اشتبكاك العناصر المتنافرة في رؤاها للمستقبل، ودخول عوامل إقليمية بلبلت رؤى المثقفين ومواقفهم، وقد تشعبت بهم مسارات الصراع وارتداداته.
لكن الثقافة العربية فكراً وإبداعاً ومغامرات جمالية، لم تبرح تبدي تطلعها نحو القادم من الأفق، ولم تتوقف عن الحلم بالمستقبل، وطرح الأسئلة حول ما سوف يأتي. لكن عناصر سلبية تكمن في اساس علاقة المجتمع بالثقافة الجديدة والتباسات قراءتها، وطبيعة علاقة المثقف بالمجتمع والسلطة والدولة، كانت، غالبا، محبطة لهذه التطلعات.
على خلفية هذه اللوحة القلقة، وفي ظلّ استمرار هيمنة السياسي على الثقافي، تراجعت أدوار المثقفين، الذين بدوا قلقين على وحدة مجتمعاتهم وانسجام مكوناتها المؤسسة للاجتماع والهويات، وبدا أن العالم العربي، الذي عرف موجات وأطوارا متعاقبة من الأفكار الكبرى والأيدولوجيات الفاعلة، سلباً وإيجاباً، في الفكر والتطلعات، يعوزه اليوم، وقد اهتزّت تلك الأفكار وتَلِفَتْ أيديولوجياتها، أن يعيد تعريف ذاته، ويعيد إنتاج السؤال حول معنى وجوده، وقراءة مستقبله، من خلال طرح الأسئلة الأكثر صراحة وجوهرية، والبحث عن الأجوبة حول جملة متشابكة ومعقدة من المسائل التي كانت في أساس تلك الانتفاضات، وبعضها كان يقع في باب المسكوت عنه.
لا مناص أمام الثقافة العربية، اليوم، حتى تخطو خطوة نحو المستقبل الذي رنت إليه أرواح الأجيال الجديدة، من مصارحة ذاتها، والاعتراف بأن لغة الفكر السابق على العواصف التي هبّت، لم يعد أكثرها صالحا للحياة، وأن اللغة البلاغية العاجزة التي سادت، كانت وما تزال جزءا من الأزمة، ولن يكون بمقدورها، بداهة، أن تحمل رؤى مبدعة، ولا أن يكون لديها البلسم الشافي من العلل.
نهض الشباب العربي ليجدد الحياة، فهللنا له، وها نحن نضع في طريقه الحواجز. وبدلاً من أن نفسح للغته وأسئلته ورؤاه أن تتفتح مع أزهار هذا "الربيع"، وتجدد فصول الحياة بألوان من الجمال والقوة والابتكار والسعي نحو المستقبل، إذا باللغة المتخشبة والأيديولوجيات الهالكة التي استعارت عينيها من الماضي، ولم ترنو إلى سواه، تفتك بتطلعات الشباب، وتنكر عليهم رنوهم نحو المستقبل، وحقهم في صناعة حاضرهم، بطرائقهم الجديدة، لتحل نفسها، بأنانية مريضة، محلَّهم وتحتل بعجزها إرادتهم، وتعيدهم، بالتالي، إلى البيوت القديمة التي خرجوا منها حالمين بالحرية، عبيدا للماضي مطأطئي الرؤوس.
والسؤال الآن، هو لماذا لم تفلح قوى الفكر، ورموز التفكير العربي الموصوف بأنه جديد وحداثي، اليوم، من قراءة المستقبل بعيون الشباب وتطلعاته المستقبلية؟ لماذا لم تملك الأذن الرهيفة ولا العين الصافية ولا الروح المتأججة، لتنصت إلى أحلام الشباب، وتبصر تطلعاتهم؟ لماذا لم يصلها قبس من أرواحهم المتأججة ونفوسهم الناهضة نحو المستقبل؟
فظل هذا الفكر في ميل، وحركات الشباب وموجاته المتدافعة إلى الشارع في ميل؟ وقد تناهبتها القوى الىفلة، وراحت توجهها هنا وهناك لتحيلها إلى قوة سالبة، ومن ثم بركان خامد.
الفكر الجديد، الفكر المبدع في أزمنة التحولات الكبرى لأجل إنسان العالم عرَّف المثقف، ذات يوم، بأنه ذاك الذي يستطيع أن يسمع صوت اهتزاز العشب في هواء العالم.
فأين نحن من كل هذا؟ وأين هي ثقافتنا من هذا التوصيف؟
أليس من الجدير بالثقافة العربية اليوم، أن تقرأ خللها في ضوء ما جرى؟ أن تقرأ عجزها عن التحول إلى قوة نوعية فاعلة تؤازر الشباب العربي في ما حلم به وما عزم عليه، وقد مضى في طريق الخروج على الاستبداد والتخلف وانعدام المساواة، وانسداد الأفق الاجتماعي أمام قواه الحية، متسلحا، ويا للمفارقة، بشعارات كنا نحن أنفسنا قد لقّناه إياها، وكانت ثقافة مدرستنا قد شرفته بها. فلماذا خذلناه إذن واستهولنا عليه أن يستلهم أفكار الحرية والكرامة والمساواة، ليشقّ لنفسه، على طريقته، طريق المستقبل؟
هل كنا، طوال الوقت، متشدقي كلمات لا نؤمن بمعانيها، حتى ننكرها عليه اليوم؟ هل كنا عشاق كلمات ونفاجة بلاغة لا غير؟
ثمة في أسئلة البعض الحيويّ منا ما يعكس جزءا نضرا من التفكير العربي والقلق العربي، فكرا وإبداعا، ويحض الخطاب الثقافي على المغامرة في تقديم أجوبة عن الأسئلة السالفة، ولعل في بعض ما خامر الفكر وشغل التفكير خلال عام مضى ما هو مضيء. وما أراه، أخيرا، أن على ثقافتنا العربية، حتى يمكنها أن تضيِّق الفجوة بينها وبين الناس، وأن تتسلح بالشجاعة والضمير وقوة الحلم، لتعيد النظر بسجلها الضخم من البلاغة الميتة التي لم تسعف حاضرنا، فكيف بها تصلح للمستقبل، وأن تعيد اكتشاف مواطن القوة والحياة في التفكير واللغة والتصور والشعور، كيما تتحول إلى قوة مبدعة، قوة مؤثرة في المسارات الراهنة، وفي صناعة المستقبل.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات