التاريخ المزور !


التاريخ حوار بين المؤرخ في الحاضر وما يسمّى حقائق الماضي. ولكن هذا الحوار لا يجعل من التاريخ علماً قائماً بذاته، لأن ما يسمّى حقائق تاريخية هو قرار من المؤرخ باختيار هذه الحقائق، ووصفها وترتيبها، تبعاً لنوازعه الشخصية. لذا، فالاعتقاد بوجود حقائق تاريخية بشكل موضوعي مستقلّ عن تأويل المؤرخ هو اعتقاد خاطئ ومناف للمنطق.

أسوق هذه المقدمة للقول وبعد أن قرأت كتاب تاريخ العراق الحديث أن هناك لحظات تاريخية عايشناها في العقدين الماضيين لم ترد كما حصلت ،بل راح المؤرخ لتغيير الحقائق وتزييفها تبعا لنوازعه الشخصية والعقائدية , المؤرخ يفرض رؤيته على أحداث الماضي، محاولاً تفسيرها على أساس أن وصفها يطابق ما حدث فعلاً، لكنه في الواقع يصوغ سردية يخلقها بنفسه على شكل متخيّل، لا يستطيع أن يدّعي صحّته،وتفرض السردية على المؤلف اختيار أوصاف الأحداث. فنمط الحبكة هو الذي ينظّم المواد الأولية، ويحدّد ترتيب الأحداث التي يعتبرها المؤرخ مهمة .

لقد عاش جورجي زيدان المؤرخ والكاتب لهذا الغرض وكتب الكثير، وكان صاحب هوى في كل ما كتب وألف، وكانت مهمته تلخيص أقوال الفرق الباطنية الموتورة وتجميع دسائسها، وإخراجها تارة باسم التمدن الإسلامي، وأخرى باسم روايات تاريخ الإسلام،جورجي زيدان صاحب هذه الحياة الكالحة هو الذي كتب تاريخ الدعوة الإسلامية، وحياة أعلام المسلمين، وأمانته في هذا كأمانة الذئب الجائع المفترس...

حقائق كثيرة لا نعلم مدى صحتها تصل إلينا وتبدل من اتجاهاتنا ومواقفنا حيال أنظمة ودول و قصص اغتيالات وصراعات جرى تغيير حقائقها تبعا لنزوات واتجاهاته ،وأخرها مثلا اعتراف ابن حسن البنا أن الملك فاروق لم يغتال اباه حسن البنا كما اعتقدنا طوال مايقرب ال70 عاما ، وان من اغتاله هم الإخوان المسلمين أنفسهم !!حقيقة او تصريح يظهر بعد 70 عاما من اغتيال مؤسس الجماعة !!

نقرأ في بعض الكتب والمقالات والتصريحات التي تصف ما يجري في مصر منذ ما يسمى بثورة 25 يونيو وما تلاها من أحداث وتطورات عجائب وغرائب ،ويتناولها البعض بالكثير من الكذب والتزوير وتغيير حقائق ما يجري تبعا لتوجهاتها ، وتبعا لقرار سياسي بتغيير الحقائق بغية تحقيق أهداف سياسية بعينها ،ويتناقل الناس روايات مخالفة مناقضة لما ينشر او يبث حتى على محطات فضائية تحمل توجهات داعمة او مؤيده لما يجري ،فتضيع الحقيقة وينقسم الناس بين رأيين مختلفين يدافع كل منهما عن رأيه ،والحقيقة قد تكون في غير متناول أي منهما،علما أن ما جرى في مصر ليس ثورة ،ولا يمكن أن يوصف سوى حالة احتجاج نجحت في تغيير أركان النظام من الصف الأول فقط ولم يتغير النظام ككل ،ولم تتبدل الُبنى والقيم الاجتماعية او الاقتصادية ولم تظهر ملامح تغييرات سياسية فارقة ،فتغير الحكم ولم يتغير النظام ،والحالة نفسها في اليمن ومثلها الى حد كبير في تونس ، فأركان الأنظمة السابقة هم من يقودون الدول تلك ،لكن البعض يصر على اعتبارها ثورة ،وهو تزوير للحقيقة .

كان يقال أن" الأقويا والمنتصرون " في الحروب هم من يصنع التاريخ ويكتبونه وينشرونه ،ويخفون فيه كل دنيئة او أخطاء مورست بحق الضعفاء ،يتجاوزون فيها كل القيم الأخلاقية والقانونية الدولية في تعاملهم مع الناس والدول ، قتل ونهب وتدمير ،ويظهرون للناس حسب التاريخ أنهم قاتلوا من اجل السلام والعدالة ،وهكذا فعلت أمريكا وغيرها من دول الاستعمار في العديد من الدول التي احتلتها.

وحتى في كتب تاريخ الأدب والملاحم الأدبية وقصص العشاق وحتى تاريخ الدول والخلافات ،فهناك تزوير لنهاية الأحداث وتفاصيل الرواية ، فمثلا كان يتهم الخليفة هارون الرشيد أنه زير نساء، التقطتها السينما والتلفزيون ولأهداف "عقائدية " لتسلط الضوء على حياة الرجل الاجتماعية بغية تشويهها ،فيما كان يعرُف عنه أنه كان يحج عاما ويغزو عاما .

كتب التاريخ العربي مزوره ورافضة للاعتراف بالحقائق ،وكذلك كتب المنتصرين في الحروب ،وكذلك تفعل تكنولوجيا الفضائيات وأقلام محرريها مقابل حفنة دولارات .

في النهاية أقول ..لاتستمعوا كثيرا لكتب التاريخ ،ولا تتنازعوا فيما بينكم حول ما يكتب ،فالحقيقة لازالت مفقودة ..



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات