في الديمقراطية


لايزال المشهد العربي برغم بعض التحولات الديمقراطية التي شهدتها بعض الأقطار العربية،ينكشف عن استمرار احتكار القرار السياسي وغياب المشاركة الشعبية ،مما يعني أن الديمقراطية ،كما تمارس عربيا هي إطار شكلي من تأليف وإخراج السلطات الحاكمة .وتقوم فيها المعارضات بأدوارها المرسومة التي تفرغها من وظيفتها الأصلية ومضمونها الحقيقي .وبرغم ما تنص عليه الدساتير نظريا من قواعد ومبادىءتشكل ضمانة لممارسة الديمقراطية ،ويأتي في مقدمتها مبدأ فصل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية ،فإن التطبيق العملي يبقى بعيدا عن النص الدستوري،ذلك أن كل السلطات تتركز عمليا في يد الحاكم الذي يعمل على صعيد الممارسة ضد هذا المبدأ،ويمارس سلطة سياسية مطلقة،تتجاوز قواعد الدستور، وتلغي عمليا مؤسسات الدولة.

ويمكن إجمال السمات الرئيسية للعملية السياسية في معظم الأقطار العربية في احتكار صنع القرارات السياسية واتخاذها من السلطة،وحرمان القوى السياسية من حقها في تمثيل الشعب والتعبير عن مصالحه،وإلغاء مسوّغات وجود المؤسسات والتنظيمات السياسية كقنوات تمكن الشعب من المشاركة السياسية،وبلورة مطالبه وحاجاته ،وإشاعة ثقافة الخضوع بين أفراد المجتمع،مما يعني سلب امتيازات المواطنة منهم وتحويلهم إلى مجرد رعايا تابعين لهذا النظام.

ويرتكز مبدأ المواطنة على المساواة الكاملة بين أفراد المجتمع،وتأكيد علاقاتهم القانونية واجبات وحقوقا بالدولة القطرية الوطنية التي ينتمون إليها،كما يؤكد المبدأ على تبني التيار القومي الحديث للديمقراطية،واعتبارها واحدا من الأسس التي لا يمكن إنجاز نهضة قومية شاملة دون تحقيقها في الأقطار ثم على مستوى قومي.

وكان لنشأة الدولة القطرية الأثر الحاسم في استبعاد قضية الديمقراطية من سُلّم الأولويات.

كما أن النخب التي حكمت منذ مرحلة الإستقلال وحتى الآن ،لم تخلص في العمل على إنجاز الأولويات المرسومة،فكانت النتيجة أن غابت الديمقراطية،وأخفقت مشاريع التنمية والتحرير والوحدة،أو تعثرت جميعها في أحسن الأحوال.

لقد اتسم التحديث في الدولة القطرية العربية بانفصاله الكلي عن المسألة الديمقراطية سواءٌ بمفهومها المتعلق بإحلال مفهوم المواطنة والاعتراف بسلطة الفرد الحر المسؤول،وبناء المؤسسات الدستورية ،وما تقتضيه من إحلال قيم المشاركة في الشأن العام،بما في ذلك حق الانتخاب ،وحق الرقابة على مؤسسات الدولة. أم ببعدها المتعلق بالتوزيع العادل للثروة الوطنية،وتوجيه التنمية وفق اختيارات اقتصادية واجتماعية تخدم مصالح الطبقات والفئات الشعبية.

كما أدى نموذج رأسمالية الدولة إلى تزايد أهمية الدولة وتغولها ،بعد أن تمّ إلغاء دور القوى الاجتماعية في السياسة والاقتصاد،واحتكار مصادر القوة والسلطة في المجتمع.

إن الثابت أن الديمقراطية ليست غاية في حد ذاتها ،بل هي شكل نظام سياسي يحرص على تحقيق الحرية والمساواة بين الناس،وقد تقبل المواطن العربي غياب الكثير من حقوقه لصالح تحقيق الأولويات التي آمن بها،كبناء الدولة المستقلة ،ومكافحة الاستعمار والتبعية،ومواجهة العدو الصهيوني.

لكن المشكلة بدأت عندما تبين أنه وراء واجهات الشعارات الوطنية والقومية الكبيرة كان الجهد الحقيقي منصباً على تثبيت أركان حكمها،وفرض سياساتها ،وحماية مصالحها ،وإحكام قبضتها على المجتمع .وإن هذه السلطة والاستمرار بها ،كان الأولوية المتقدمة على جميع الأولويات ،بل والتي غالبا ما تحققت على حساب الأولويات الوطنية والقومية.

وقد ترتب على ذلك سقوط القناع عن وجه السلطة ،ولجوئها إلى قوة القمع للمحافظة على وضعية المواطن مجردا من حقوقه.

ومن هنا برزت أهمية الديمقراطية المفقودة،حيث أدى الاستبداد السياسي،وحكم العائلة والقبيلة على مدى عقود من الزمن إلى شل الفاعلية السياسية لمجتمعات الأقطار العربية،وإغلاق الطريق أمام إمكانية تغيير السلطة سلميا.

إن غياب الديمقراطية من المجتمعات العربية،قد أظهر نتائجه الكارثية المتمثلة في الإخفاق والعجز،وتردي أوضاع الحريات العامة وحقوق الانسان،وتفاقم حالة السلبية واللامبالاة لدى الأغلبية الساحقة ،الأمر الذي يؤكد أن الديمقراطية هي الضمان الفعلي لتحقيق الخيارات الشعبية،كما هي الآلية المشروعة لتصحيح الانحراف والتعثر والقصور.

والديمقراطية بمفهومها التمثيلي الحقيقي ،والحريات العامة وحقوق الإنسان ،هي شروط ضرورية لعمليات التنمية والتحديث من حيث إنها توفر الطاقات الانسانية التي لاتقوم تنمية ناجحة بدونها.

إن هناك بعض الحكام العرب ما زالوا يرددون القول من أن الشعوب لم تنضج بعد،وهي لذلك غير مؤهلة لممارسة الديمقراطية ،ويدّعون أن مفاهيم الحرية والديمقراطية ،مفاهيم مستوردة دخيلة على التراث العربي.

إن هذه المقولات يتبناها أناس يعيشون خارج العصر،وهنا يبرز التساؤل المشروع ،هل مسألة الطبيعة السلطوية أو التسلطية للأنظمة العربية هي مسألة عطش الحاكم العربي إلى السلطة ليس إلا؟ ومسألة الإرث الاستبدادي للدكتاتورية ليس غير ؟ أم إن للمسألة وجهها الموضوعي الآخر؟

إن أزمة الديمقراطية لا تكمن في محاولة البناء الديمقراطي ،باستباق محاولة بناء الدولة ،ولكنه يكمن في تعثر البناءَين معا .فالدولة العربية ما زالت مرادفة للسلطة لأنها في الواقع ملك الحاكم .والديمقراطية ما زالت شعارا لا وجود له في عمق السياسة والثقافة في المجتمع.

يؤكد ذلك أن الديمقراطية لا تغيب عن ممارسة السلطة الحاكمة فقط بل تغيب عن المعارضة أيضا، وذلك لأسباب ذاتية تعود لأزمتها الدائمة ، وتراجعها المزمن ، وانعدام الحياة الديمقراطية داخل التنظيم السياسي، وترهل بناه وهياكله ،وتفشي الأنانية ،مما أفقد المعارضة وظيفتها السياسية والإجتماعية ،وحوّلها إلى جزء من السلطة.



تعليقات القراء

قاتلهم الله
أنى يؤفكون
27-07-2013 03:13 AM

أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات