نظرة متفائلة للشام


في غمرة الأسى واللوعة لجيل بأكمله, ولصعوبة الفهم لما يجري على الأرض في سوريا وبلاد الشام على مساحة أراضها وامتداد آفاقها, أتقدم بهذه المساهمة المتواضعة لنماذج من الجهد التي قدمته العائلات السورية في مدينة اربد وريفها- بعيدا عن السياسة وويلات الحرب- إلى القراء الكرام كي يتذكروا بعض الملامح الشخصية للعائلات السورية الكريمة وفضلها على مكان سكناها ودورها المحوري الحضاري, أينما حلت وارتحلت, وكيفما حل بها سوء الطالع من ويلات وتهجير, خاصة في هذه السنوات العجاف التي يشيب لها الولدان ويحار بها الحليم ممن يعيش هذا المشهد الراهن الرهيب, ويقتات على الخبر العربي المخزي والمأسوف على تفاصيله مدار الساعة. لكن الابتسامة التي تأتي مع الألم لها ما يبررها, وعلى جيلنا أن يتمثل المرحلة وينظر لها بكليتها, كاملة غير منقوصة, وعلى جيل الشباب أن لا يفارق مخيلته بأن الشام ولادة للأحداث والمشاهد الكبرى حتى يرث الله الأرض ومن عليها. ولكن يبقى علي القول بأن للعائلات الشامية والسورية لها طقوسها ولها ما يميزها من جهد عز نظيره في الاقتصاد المنزلي وإدارة الحياة الأسرية, تعلم الأردنيون بعضها ولم يتعلموها كلها وقد حاولوا جهدهم, ما استطاعوا إليه سبيلا.

فالعائلات الكريمة: يغمور, بيبرس, الشماع, جمعة, الملقي, فتوح, الشيخ سالم, سوسان, الصباغ, الدباغ, الطوقتلي, الشرقطلي, الحلبي, سكريه, الكردي, اليبرودي, والأمعري لاحقا... وغيرها من الأسر الشامية في اربد, نعرفهم منذ نعومة أظفارنا, كما يعرفهم آبائنا وأجدادنا أكثر منا نحن, جيل النصف الثاني من القرن الماضي. لكنا جيلا" بعد جيل, نعترف لهم بجهدهم وأصالتهم ومساهماتهم في الحياة المدنية لأربد وما حولها.

فمن صناعة السينما إلى توفير مستلزمات الزراعة والحصاد والبيادر مثل ألألواح وأحجارها السوداء, ومن المرياع إلى الدامر فأحجار الرحى والخانات كانت بتقنياتهم وإشرافهم, وبعض المواد الأساسية, تجلب من الأسواق, التي يعرفونها ويألفونها في الشام بجهدهم أو يتم إعدادها وتوفيرها بإدارتهم. يأتون بها ومستلزماتها من أسواق الشام إلى أسواق اربد القديمة, حيث الفلاحين من أبناء المدينة وما حولها يتسوقون ويعبون أسواقها عبا.

فمن قادم إلى ببور الطحين "لمالكه المرحوم عيد الملقي" حاملا طحنته على ركوبته يطحنها ويؤوب إلى آخر يقصد سوق الحدادة باحثا من سكة جديدة لمحراثه أو حاسما لسكة قديمة ويعود, إلى بائع أو مشتري أو وسيط يسوم في سوق الحب وسوق الرمان وسوق الحلال ومن ثم يعود. أما أبناء القرى المحيطة, فالبعض يقضي ليلته, ينام في مضافات ودواوين المدينة لعشائر الخرزات, مودعا ركوبته أو ما لديه من ماشية في خان غزالة أو خان حدوه وغيرها من الأماكن, لليوم الذي يليه وهكذا كانت الحياة كل يتدبر أمره ويعرف ما يريد.

كانت العائلة الشامية وما تزال, عائلة اقتصادية بامتياز, تمتهن التجارة في السمانة والعطارة والمئونة من الخضار المجففة والفواكه والحلاوة والتمر والدبس ومشتقات الألبان, تعرضها للبيع وللمقايضة في مخازن ومحلات تجارية يملكونها أو يستأجرونها. وكانت نظريتهم في التجارة "أشتري بقرش وبيع بقرش ثم اربح ما بينهما" !

وكان تسليف الفلاحين بضاعة طوال السنة لأجل, وقضائها "على البيدر" في الصيف, أي بعد موسم الحصاد, مباشرة عند جني المحصول, يسمى بالطلاع. والطلاع هو قضاء الدين للدائن من محصول القمح والعدس والشعير وغيرها, العائد للمدين, بنسبة مسبقة يتفق عليها الدائن مع المدين مسبقا".

كان لها ما يبررها بعرف الشامي, أما الفلاح فهو مضطر للطلاع, ليسد حاجة أسرته, مع العلم أنه لا يؤمن كثيرا بثقافة الغرم المضطر لها, ولكنه يؤمن بثقافة المغنم بمعتقده وطبعه. وكان وقت الطلاع صعبا على الفلاح يتحسب له ويأمل ألا يأتي يومه.

لقد أحب الفلاح في اربد وما حولها الشامي ومسلكه النظامي وحلاوة لسانه, وحرصه وأمانته, ودينه وعفته, لكنه لم يتعلم منه التدبر في المصاريف, والتوفير لقابل الأيام, ولم يتعلم منه الحرفة كما ينبغي لها أن تكون.

الفلاح يملك الرصيد الثابت مثل الأرض والبيت والملكية الزراعية الموروثة, وحوله أقاربه وعشيرته, والشامي يمتلك الرصيد المتحرك وهو جهده في التجارة وتوريث الحرفة والمهن للأبناء, ليمتلك "العملة" أي النقود. تجانس الناس في اربد وانسجموا, لا بل, احتوي الشامي الفلاح مع الوقت, وتصاهر معه, وتعلموا من بعضهم وتبادلوا الأدوار مع الزمن.

لقد كانت الشام وما تزال مثابة حج للتواقين لحضارة الشام, ومصحة للعليل وطالب الراحة منهم. كانت والدتي الفلاحة, "الأم الرءوم" يرحمها الله تقول, "الشام شامة الله في أرضه يمه", ومياهه رواء لمن يشربها !

أما مطبخهم فهو مفضل وهوى" لمعاشر الرجال الأربديون, يتندرون بلذيذ طعامهم وطبخهم, جادين ومازحين ومناكفين حينا" آخر لزوجاتهم, المكثرات كميا" من الطعام, المقلات في تنوع السفرة والتوابل والسلطات ! ساهمت الأسر الشامية العريقة في النقلة النوعية الحضارية لأربد وما حولها وشاركت في التحويل لنهضة المدينة واستقطاب المزيد من القاطنين لها.

فبيوت الشوام رحبة, وملامح إنسانيتهم بارزة وصفاء سريرتهم محسوسة وجمال بشرتهم وشروق ابتسامتهم ماثلة على الدوام, ينتابها الرحمة والخفة والحبور علاوة على المودة السرور ! بيوتهم مصليات, وحدائق منازلهم وارفة بأشجار الفواكه والحمضيات, أسوار بيوتهم معلقة بالدوالي والياسمين. ساهموا وما زالوا في رفد المدينة وكثير من قراها بمشاريع سكنية وأخرى تنموية وقدموا الخدمة بكل حرفية وإتقان.

نجحوا في تآلفهم مع بعضهم البعض والآخرين في مجتمعهم وبنو لنا صرح مسجد الفيحاء, وجمعيته الرحيمة, وتجمعنا وإياهم في اربد المدينة جمعيتهم الأنيقة في الفرح والملمات, جعلها الله في ميزان حسناتهم. الأدب الرفيع والتواضع, مأثرة عندهم, وعبق الماضي بارز في حديثهم, يتحدثون عنه بكل بطهر وحنين. يتخلل جلساتهم تقديم الحلوى المعدة بإتقان, وأنواع المشارب ! جل طعامهم في دعواتهم طيب الشواء, وطعم التوابل ماثلة في مآدبهم, في جمعتهم أدب جم وفي لمتهم حبور وحضور, وكرم دمشقي نوعي لا يميزه إلا من يعرف قدرهم وطباعهم, فطوبى لهم ولصنعتهم وحرفتهم وما يتدبرون !
وأعاد لنا الله الشام, شامة أنيقة مميزة في دنيا العرب, وسلام على أهلها وروابيها وما تكتنف من كنوز ومآثر كسابق عهدها وهي آمنة حرة وارفة الظلال عزيزة الجانب, بعيدا عن شرور وأحقاد هذا الزمان العجيب.



تعليقات القراء

ابو احمد الحجايا
ابدعت يادكتور محمود الحموري واقترح عليك ان تاخذ اشوام اربد جاهه على الشام بقيادتك ليس لطلب عاروس ولكن جاهة ود وبناء لوقف الاقتتال بين الافرقاء لوقف النزيف وارساء الود والمحبه ونتمنى لك دوام الصحة والعافيه وجزاك الله خيرا على هذا المقال الرائع
10-06-2013 12:01 AM
متابع
راجع صحيفه الفرات السوريه
10-06-2013 12:54 AM
د . وليد يوسف حموري
كم استمتعت وأنا أقراء هذا المقال يادكتور عن ثقافة أهل بلاد الشام والأيام القديمة التي عشنا جزءاً منها ونتذكرها ونعشق هذا التذكر , ونحزن ونتألم على هذ البلد العربي وما وصل اليه من فقدان الأمن والتمزق وهدر لمقدراته, و وندعو الله أن يخلص هذا البلد من الفتن الطائفية ويبقى قلب الوطن العربي النابض والذي ينبع بتاريخ اجدادنا ورموزاه, وندعو الله العلي القدير أن يحفظ اهل الشام وبلاد الشام, وأخيراً الله يجزيك الخير يا دكتور على هذا المقال الرائع
10-06-2013 01:08 AM
خالد الزبون........احد طلبتك
مبدع د.محمود
10-06-2013 08:22 AM
محمد ابو عين
اشكرك د محمود
10-06-2013 02:45 PM
امين الحموري
الى الأمام يا أبا عمر, جزاك الله خيرا
30-06-2013 08:19 PM

أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات