لماذا لا نستفتي تاريخنا القريب ؟


 اخشى ان يكون الخطاب الرسمي الاردني قد خسر شفافيته ومصداقيته، واثقل نفسه بالزيف والتدليس، وهام على وجهه في عوالم التيه واللغو وانعدام الوزن.

اخشى ان هذا الخطاب الخائب قد اتقن الازدواجية، واحترف اللعب على الحبلين، وادمن الباطنية حتى بات ظاهره يخالف جوهره، وعنوانه يناقض مضمونه، وصورته تعاكس حقيقته.. الامر الذي افقده القدرة على الاقناع والتأثير والموثوقية، ودفع بالاردنيين الى ملاحقة وسائل الاعلام والمعلومات الاجنبية لمعرفة خفايا ووقائع واسرار ما يدور في بلادهم، وما يدبر حكامهم واولياء الامر فيهم.

لولا وسائل الاعلام الاسرائيلية لما علم الاردنيون ان الصديق والشريك بنيامين نتنياهو قد زار عمان، تحت رداء السرية والخصوصية، مرتين خلال الشهرين الاخيرين.. ولولا الصحافة الامريكية والاوروبية لما عرف الشعب الاردني بمؤامرة تدريب وتسليح عصابات المعارضة السورية فوق تراب الاردن الذي تحول مؤخراً الى مقر وممر لمختلف اجهزة الاستخبارات الصهيونية والغربية والخليجية المعادية للقطر السوري الشقيق.

منذ بدء الازمة السورية قبل عامين، اتسم الخطاب الرسمي الاردني بالتعقل والوسطية والدعوة لحل الازمة سياسياً، والادعاء بالحياد بين النظام والمعارضة هناك، وقد صدّق الكثيرون منا هذه المزاعم والادعاءات، انطلاقاً من قناعاتنا بوحدة الامن الوطني في كل من دمشق وعمان، وارتباطهما بمصير مشترك حتى لو لم ترتبطا بموقف واحد او موحد.. غير ان الحقائق الميدانية والوقائع على الارض سرعان ما فضحت هذا الخطاب، وكشفت زيفه، وعرّت باطنيته وازدواجيته، واثبتت ان حكامنا يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يقولون ويعلنون.

لو كان الفعل قويماً وسليماً ومعبراً عن الارادة الشعبية الاردنية، لما اضطر الحاكمون الى حجبه واخفائه، واعتماد لغة التورية والتمويه والتدليس بدلاً عنه.. ولكن الفعل اغبر ومستنكر وبعيد عن المصلحة الوطنية والروح القومية، فالتواطؤ مع القوى الصهيونية والعصابات الارهابية والتكفيرية ضد القطر السوري، ارضاً وشعباً ونظاماً، امر لا يُشرّف اصحابه، ولا يعود على الاردن بالنفع والامن والقوة، بل العكس من ذلك على طول الخط.. واسألوا التاريخ القريب.

فقبل عشرة اعوام تواطأنا مع هولاكو الامريكي على غزو العراق، وفتحنا ابواب بلادنا امام قواته واستخباراته التي انطلقت لتدمير الخطوط الدفاعية والمنصات الصاروخية، وتجنيد العيون والاعوان من ضعاف النفوس في غرب العراق، تمهيداً للضربة القاصمة يوم التاسع من نيسان عام 2003، واسقاط نظام الرئيس الشهيد صدام حسين الذي كان قد شكل اكبر داعم سياسي واقتصادي ونفطي للاردن على مدى عشرين عاماً، ثم تنصيب نظام عراقي جديد سرعان ما ادار ظهره للاردن، واوقف سائر المنح والمساعدات المقدمة اليه.

وهكذا فقد خرجنا من مولد جورج بوش بلا حمص، وكوفئنا على تواطئنا بما يشبه "جزاء سنمار"، فلم تمنحنا ضباع واشنطن الدرجة الرفيعة والمقام المحمود بين الحلفاء، ولم تعوضنا دول الحيض النفطي الاعرابية عما كان يرفدنا به نظام الشهيد صدام، ولم نفق منذ ذلك الحين من غيبوبة المديونية وعجز الموازنة وغلاء اسعار المحروقات.. ولكننا افقنا ذات ليلة من ليالي عام 2005 على دوي تفجيرات الفنادق في عمان على يد عصابات القاعدة ومجاميع الزرقاوي التي استوطنت العراق ولا تزال.

قبلها كنا قد فتحنا ابواب بلادنا، خلال عقد السبعينات من القرن الماضي، امام عصابات الاخوان المسلمين السوريين، وانشأنا لهم مراكز تدريب وتسليح واسناد خلفي في الشمال الاردني، بغية تمكينهم من اسقاط نظام الرئيس القوي حافظ الاسد، عبر عمليات التخريب والتفجير والتحشيد المذهبي والاستقواء بالعربي والاجنبي على حد سواء.. غير ان الرئيس الاسد الذي كان خارجاً للتو من حرب تشرين المجيدة، لم ينهزم او يستسلم، بل استطاع انتزاع الانتصار، اوائل عقد الثمانينات، على جبهتين.. الجبهة السورية التي محق فيها عصابات الاخوان المسلمين، والجبهة اللبنانية التي اسقط فيها اتفاق 17 ايار الخياني الذي ابرمه الرئيسان بشير وامين الجميل مع مناحيم بيغن، وكان يشكل الفصل الثاني من فصول الاستسلام العربي بعد معاهدة كامب ديفد الساداتية.

وهكذا فقد خرجنا من مولد الاخوان المسلمين هذه المرة "بسواد الوجه"، فقد ساءت علاقاتنا الى ابعد حد مع نظام الرئيس الاسد، رغم انه كان صاحب الفضل الاول في سحب قطعات الجيش السوري التي توغلت في شمال الاردن ابان احداث ايلول عام 1970، حيث كان وقتها وزيراً للدفاع، ومتأهباً للقيام بالحركة التصحيحية، كما سميت آنذاك.

الاغرب والاعجب ان جماعات الاخوان التي كان يتعين عليها تقدير موقف الاردن الداعم لها، وتثمين دور نظامه في مساندتها لمقاتلة النظام السوري، قد فعلت العكس، واتصفت بالجحود ونكران الجميل، وباشرت مسيرة الابتعاد عن النظام والتطلع الى منافسته والحلول محله حتى وصلت الى ما هي عليه الآن.. الامر الذي دفع الملك حسين آنذاك الى فك تحالفه معها، وتقديم رسالة اعتذار واعتراف بالخطأ وتنصل من المسؤولية عنه، الى الرئيس الاسد عند منتصف عقد الثمانينات.

طيب.. هل يحق لحكامنا ان يتورطوا مرة ثالثة في مغامرات ومؤامرات بائسة خلال ثلث قرن، وضد انظمة شقيقة، ولحساب الاخوان والامريكان ؟؟ وماذا سيكون موقفنا غداً او بعد غد حين ينجح ربان الصمود الاسطوري بشار الاسد في كنس عصابات الارهاب، واستعادة زمام المبادرة ومقاليد الامور ؟؟ هل نتقدم منه مجدداً برسالة اعتذار وعطوة اعتراف، ام نبقى لاهثين خلف قيادة رعناء وعمياء في مشيخة قطر ؟؟

حتى لو افترضنا جدلاً ان النظام السوري قد سقط، وان دمشق قد وقعت في ايدي جماعات الاخوان وعصابات الارهاب.. فهل هناك ما يمنع من تمددها نحو الاردن شأن تمددها الحالي في شمال لبنان وغرب العراق ؟؟ وهل هناك ما يحول دون انتقال نارها وشرارها الى المجتمع الاردني المحتقن بالعنف حتى في عقر جامعاته ؟؟ وهل هناك ما يضمن عدم تكرار "الصفقة المصرية" التي حل بموجبها محمد مرسي محل حسني مبارك الذي طالما شكل "كنزاً استراتيجياً" لامريكا واسرائيل ؟؟

هذا هو السؤال بل الاسئلة التي لا يجوز ان تغيب عن البال.

وعليه، فلا لزوم بعد اليوم للباطنية السياسية والخطاب الرسمي المزدوج.. لا لزوم للتورية والتمويه والمداورة والمناورة بالتلاعب بالالفاظ.. لا لزوم لطريقة انور السادات في الغمز يساراً والتوجه يميناً، فقد سقطت كل هذه الاحاجي والالغاز في درك الفضيحة، وتكشفت خفاياها للقاصي قبل الداني والعدو قبل الصديق، وباتت محل سخرية واستهزاء واستخفاف من لدن مختلف طبقات الشعب، وحان اوان نبذها والتخلص السريع منها، تمهيداً لاعتماد منطق الشفافية والمكاشفة والمصارحة، لان الزبد يذهب هباءً، ولكن ما ينفع الناس يمكث في الارض ويرسخ في التاريخ.

وبعد..

يقول الفيلسوف الاسباني جورج سانتيانا : "هؤلاء الذين لا يقرأون التاريخ محكوم عليهم باعادته".



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات