رحمته صلى الله عليه وسلم بالأعداء من المقاتلين والأسرى والمنافقين


الإسلام دين السلام وشعاره السلام، فبعد أن كان أهل الجاهلية يتقاتلون لعقود من الزمن لأجل سباق بين فرسين أو لأجل ناقة أو لأسباب تافهة من نيل الثأر وغيره جاء الإسلام يدعوهم إلى الوئام والسلام. وكان غايته أن يدخل الناس في السلم كافة وينبذوا الحروب والشحناء. والإسلام في رسالته متناسق وواضح ومنسجم مع منطقه الداخلي ومع الحقيقة الموضوعية ولذلك فهو لا يقبل التلفيق بين الأديان، ويعلن أن الحق في الإسلام لا فيما عداه. وأكد على التمايز بين الحق والباطل كما في قوله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِيْنُكُمْ وَلِيَ دِيْنِ[1]، ولكنه في الوقت نفسه لا يكره أحداً على الدخول فيه كما قال تعالى: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّيْنِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ[2]. بل دعا إلى اتخاذ مسلكٍ أكثر إيجابيةٍ وموافقةٍ لمبادئ دعوته وهو منهج الإحسان والدعوة بالحسنى. 

والجهاد هو أحد المسالك التي سنها الإسلام لتحقيق السلم ودفع تسلط الظلمة والغاشمين، فلم يُفْرَض رغبة في السيطرة والتوسع أو كسباً للمنافع الدنيوية أو إرغاماً للناس للتخلي عن عقائدهم السابقة والدخول في الإسلام، ولكنه واجب لدفع ومقارعة من يرفضون انتشار هذا الدين ويطوقونه ويحاصرونه ويمنعون وصول رسالته للبشر الذين جعله الله رحمة لهم كما قال سبحانه: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِيْنَ[3]. ولهذا كلما كان هناك مجال للسلم فإن الإسلام يدعو إليه كما قال سبحانه وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ[4]. ويؤكد منهج الإسلام عدم العدوان باسم الجهاد كما قال سبحانه فَإِنْ اعْتَزَلُوكُمْ وَأَلْقَوا إِلَيْكُمُ السَلَمَ فَمَا جَعَلَ الله لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيْلاً[5]. إن الجهاد في الإسلام شرع لغاياته لا لذاته ولهذا فإن الشهادة وأجرها العظيم لا تكون إلا لمن أدرك غاية الجهاد والتزم بمبادئه، ومن هنا فإنه صلى الله عليه وسلم كان يقاتل في سبيل الله.

لم يتعرض الرسول صلى الله عليه وسلم لغير الذين قاتلوه، كما كان صلى الله عليه وسلم شديد الحرص على سلامة واحترام أرواح الأبرياء، والعناية بالأسرى ولا يستخدم الإسلام القوة ليفرض نفسه على الآخرين، وإنما يسعى الى إحقاق الحق وإبطال الباطل، ولا يكره الناس على اعتناقه وانما تترك الحرية للإنسان من غير استكراه، مع الشرط ان ترفع العوائق والمصدات التي تعمل تضييق الخناق على انتشاره. كما ان الإسلام يمنع من يحجر على الناس الا يفكروا، أو أن يفرض الرأي عليهم، وإنما يسعى إلى أن تترك حرية الرأي والدين للإنسان وأن يختار وفق ما يراه هو بنفسه لا ما يراه الآخرون له. وعلاقة المسلمين بغيرهم علاقة تبنى على العدل والقسط والبر والإحسان.

محمد صلى الله عليه وسلم كان يقاتل في الحرب بشجاعة ولكنه أيضا كان صاحب شفقة عظيمة. كان ينهى أصحابه أن يقتلوا طفلاً أو امرأةً أو شيخاً كبيراً أو مسالماً وإنما من حمل السلاح فقط. وكان ينهى أن يجهزوا على الجريح أو يمثلوا بالجثث أو يحرقوها أو يعبثوا بها. وكان إذا بعث بعثاً أو جيشاً أوصاهم: (لا تغلّوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً ولا امرأة ولا شيخاً كبيراً ولا راهباً في صومعته)[6].

وفي غزوة أحد تعرّض عليه الصلاة والسلام للأذى الشديد من قريش ومُزِّق جسد عمه حمزة تمزيقاً ومُثِّل بجثته وكذا ابن عمته عبد الله بن جحش وأصيب هو صلى الله عليه وسلم فشُجَّ رأسه وكُسِرت رَبَاعِيته وغطى الدم وجهه الشريف. وبينما كان المشركون جادين في حملتهم لقتله كان أكثر رحمة بهم وكان يدعو: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)[7]. فهل يوجد أرحم من محمد صلى الله عليه وسلم في مثل هذه اللحظات؟.

وحين جاء فتح مكة، كيف تعامل مع من أخرجوه وآذوه، وعذبوا أصحابه وصادروا أموالهم واستولوا على دورهم، وسَبُّوه وشتموه ووضعوا الأذى على ظهره وهو يصلي ونثروا التراب على رأسه والشوك في طريقه، وحاصروه في شعب أبي طالب وتسببوا في وفاة عمه وزوجته خديجة وهما أحب الناس إليه؟. كيف كانت معاملته لأهل مكة بعد هذا التاريخ المملوء عداوة وبغضاً؟. لقد دخل مكة بعشرة آلاف مقاتل، دخل على ناقته، والدرع على صدره، والمغفر على رأسه، والسيف في يده، والنبال على ظهره، ولكنه مع كل مظاهر الحرب هذه كان أنموذجاً للرحمة!. سأل أهل مكة: (ما ترون أني فاعلٌ بكم؟). فـأجابوه: خيراً، أخٌ كريم، وابن أخ كريم. فـقال لهم ما قـاله يوسف عليه السلام لإخوته: لا تَثْرِيْبَ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ يَغْفِرُ الله لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِيْنَ[8]، ثم قال لهم: (اذهبوا فأنتم الطلقاء)[9].

هذا هو محمد النبي وهذه رحمته التي شملت كل الناس واستمرت دستوراً هادياً إلى قيام الساعة. إنها ليست تلك الرحمة الكاذبة التي تأتي ردود أفعال من أناس يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، كما أنها ليست الرحمة ذات الوجهين التي تطبق على البعض ويحرم منها البعض كما نراه في كثير من الشخصيات والنظم والقوانين الدولية والمحلية التي تحاكم آخرين وتستثني آخرين ولا تلك المؤسسات التي ترأف بالحيوان ولكنها تُشَرِّع لظلم الإنسان أخاه الإنسان[10].

ولئن كان هذا حاله وتلك رحمته مع من آذوه وقاتلوه فكيف بمن عداهم. ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان في طريقه في سفر فنام تحت ظل شجرة فلما استيقظ وجد رجلا من المشركين على رأسه وبيده السيف فقال: يا محمد من يمنعك مني؟. فقال صلى الله عليه وسلم: (الله). فأخذت الرجل رجفة وسقط السيف من يده فأخذه صلى الله عليه وسلم فقال: (من يمنعك مني؟) فقال الرجل: لا أحد. قال صلى الله عليه وسلم: (اذهب فقد عفوت عنك)[11]. وكان صلى الله عليه وسلم مُهَاباً، وحين دخل مكة فاتحاً كان المشركون يظنون أنه سينتقم منهم، بل إن بعض المسلمين استعد لذلك وعَدُّوه من باب القصاص حتى قال أحدهم: اليوم يوم الملحمة. فرد عليه صلى الله عليه وسلم بقوله: (اليوم يوم المرحمة)[12]. وأتبع القول بالعمل حتى إذا وقف رجل من المشركين بين يديه ترتعد فرائصه قال صلى الله عليه وسلم: (هوّن عليك فإني لست بملك وإنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد)[13]. أيُّ رحمة تسكن قلب هذا النبي العظيم لتنسيه أذى اشتد عليه في مكة واستمر ثلاثة عشرة سنه من الصدّ والسخرية ومكر الليل والنهار.

ولقد أجهز صلى الله عليه وسلم على الوثنية في عقر دارها وحطم الأصنام التي كانت حول الكعبة وهو يتلو قول الله تعالى وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقَاً[14]. وبينما هو كذلك اقترب منه (فضالة بن عمير) يريد أن يجد له فرصة ليقتله فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم نظرة عرف بها طويته فدعاه وسأله: (ما كنت تحدث به نفسك؟) فقال: لا شيء، كنت أذكر الله. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أستغفر الله)، ووضع يده على صدره فانصرف الرجل وهو يقول: ما رفع يده عن صدري حتى ما من خلق الله شيء أحب إلي منه[15].

وهكذا كان صلى الله عليه وسلم طوال حياته يرحم من عاداه ويعفو عمن ظلمه ويغفر الإساءة ويجزي بالسيئة الحسنة حتى استمال إليه القلوب وأطبق الناس على فضائله. وكان الصدق والرحمة باديان على وجهه صلى الله عليه وسلم. وكان آية في سمو الخلق ورقة القلب فجمع مع الرحمة تواضعاً جمّاً وحين كان القادة والملوك يرون في الفتوحات موسماً للفخر والزهو. كان صلى الله عليه وسلم يرسم بانتصاراته للعالمين لوحة رائعة من معاني التواضع وكرم النفس، فها هو يدخل مكة فاتحاً مطأطئاً رأسه حتى ليكاد رأسه أن يمسّ عنق راحلته شكراً لربه عز وجلّ وإجلالا لمن منّ عليه بالفتح العظيم وتواضعاً لعباد الله ورحمةً بهم من خوف الانتقام و القصاص. ومن أعظم مظاهر الرحمة التي تتجلى هنا أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن ينتصر لنفسه إلا أن تُنْتَهَك محارم الله فقد قالت عائشة رضي الله عنها: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم منتصرا من مظلمة ظُلِمَها قط ما لم يُنْتَهَك من محارم الله شيء، وما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً)[16].

ومن أعظم المظاهر لرحمته صلى الله عليه وسلم ما عامل به أسارى بدر (أُولى معارك الإسلام)، فقد اختار صلى الله عليه وسلم رأي أبي بكر بأن يعاملهم بالحسنى وأن يقبل منهم الفداء وأعرض عن رأي عمر الذي كان يرى قتلهم حتى يهابه المشركون. ثم إن القرآن نزل بعد ذلك مؤيداً رأي عمر ومعاتباً النبي صلى الله عليه وسلم. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يوصي أصحابه بالأسرى عموماً، وها هو أحد الأسرى يحدثنا عن عظيم امتثال الصحابة رضي الله عنهم بهذه الوصية واحترامهم لهذه التوجيهات النبوية التي لا تضاهيها اليوم أخلاق الجنود مهما بلغت صرامة التعليمات وشدة العقوبات. إن جنود محمد صلى الله عليه وسلم قد تخرجوا من مدرسة الرحمة والرفق قبل أن يتعلموا العسكرية وفنون القتال. يقول أبو عزيز بن عمير (وهو أحد الأسرى): (كنت في نفر من الأنصار وقد قدموا بي من بدر، فكانوا إذا قدموا غداءهم أو عشاءهم خصوني بالخبز وأكلوا التمر لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بنا، فما تقع في يد أحد منهم خبزة إلا نفحني بها فأستحي فأردها على أحد فردوها عليّ ما يمسُّها) فسبحان الله ما أطوع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم له. وصلى الله عليه وسلم ما أرحمه، فلقد نالت رحمته أعداءه ومن كانوا يريدون قتله فما أعظمها من رحمة. وكان من بين الأسرى خطيب من خطباء المشركين يحرض الناس عليه ويتكلم فيه بسوء وهو (سهيل بن عمرو) فأشار عليه أحد الصحابة أن ينزع ثنيتيه (أسنانه الأمامية) لئلا يخطب فيه بعد اليوم فما كان منه صلى الله عليه وسلم وهو الرحيم الرقيق إلا أن أبى أن يمثل به ورجى الله أن يهيئ لسهيل الهداية وأن يقوم مقاماً يدافع فيه عن الإسلام. إنه تماماً نفس القلب الذي أبى عرض ملك الجبال أن يطبق عليهم الأخشبين، لا يكتفي بالعفو بل يرجو لهم النجاة والخير.

ومن ذلك موقفه صلى الله عليه وسلم من ثمامة بن أثال سيد بني حنيفة وقد كان عدوا له صلى الله عليه وسلم. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلاً قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد. فخرج إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ما عندك يا ثمامة؟). فقال: عندي خير يا محمد، إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تُنعِم تُنعِم على شاكر. وإن كنت تُريد المال فسل منه ماشئت. فتُرك حتى كان الغد، ثم قال له: (ما عندك يا ثمامة؟). قال: ما قُلتُ لك إن تُنعِم تُنعِم على شاكر. فتركه حتى كان بعد الغد فقال: (ما عندك يا ثمامة؟). قال: ما قُلتُ لك. فقال: (أطلقوا ثمامة). فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله . يا محمد، والله ماكان على الأرض وجه أبغض إليَّ من وجهك، فقد أصبح وجهك أحبَّ الوجوه إليَّ. والله ما كان من دين أبغض إليَّ من دينك، فأصبح دينُك أحبَّ الدِّين إليَّ. والله ما كان من بلد أبغض إليَّ من بلدك، فأصبح بلدك أحبَّ البلاد إليَّ. وإنَّ خيلك أخذتني وأنا أُريدُ العمرة. فماذا ترى؟ فبشَّرهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر فلما قدم مكة. قال له قائل: صبوت . قال: لا ولكن أسلمت مع محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبَّةُ حنطةٍ حتى يأذن فيها النبيُّ صلى الله عليه وسلم[17]. فهل هناك أعظم من هذه الرحمة؟. إن المتأمل في قصة ثمامة هذه ليلحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل ثمامة ذات السؤال، وفي كل مرة يجيب ثمامة بطريقة مختلفة. فالأجابة الأولى (عندي خير يا محمد، إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تُنعِم تُنعِم على شاكر. وإن كنت تُريد المال فسل منه ماشئت) كان فيها نوع من العلو والرهيب من العقوبة والترغيب بالعفو والإغراء بالمال، وهذا متوقع من سيد في قومه كثمامة. أما الإجابة الثانية (ما قُلتُ لك، إن تُنعِم تُنعِم على شاكر) فأعرض فيها ثمامة عن العلو والإغراء بالمال والترهيب وألمح إلى العفو. أما الإجابة الثالثة (ما قُلتُ لك) فلم يلمح فيها ثمامة إلى شيء. ومما قيل في ذلك أن ثمامة لمس من النبي صلى الله عليه وسلم الرأفة والرحمة والتواضع وعدم الرغبة في الانتقام فغير جوابه ليكون مناسبا للحال. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بربطه في سارية المسجد ليطلع على حال المسلمين وما بينهم من الرحمة والمودة والألفة التي رباهم عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وليكون ذلك مُرَغِّباً له في الإسلام، فكان الأمر كذلك. إن رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بالبشر لم تكن قاصرة على أتباعه بل تعدتهم -كما أشرنا سابقاً- إلى أعدائه الذين حاربوه كثمامة بن أثال. وبسبب هذه الرحمة لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يميل إلى الانتقام وأخذ الثأر، بل كان يحب أن يدخل الناس في دين الله ليسعدوا في الدنيا والآخرة.

يقول المستشرق غوستاف لوبون: (اقترف الصليبيون من الجرائم نحو المسلمين والنصارى الشرقيين مالا يصدر عن غير المجانين، وكان من ضروب اللهو عندهم تقطيع الأطفال إرباً إرباً وشيّهم! ويدل سلوك الصليبيين في جميع المعارك على أنهم من أشد الوحوش حماقة، فقد كانوا لا يفرقون بين الحلفاء والأعداء. لقد أفرط قومنا في سفك الدماء في هيكل سليمان، وكانت جثث القتلى تحوم في الدم. وكانت الأيدي والأذرع المبتورة تسبح كأنها تريد أن تتصل بجثث غريبة عنها!! وأباد الفرسان الصليبيون الأتقياء! جميع سكان القدس من المسلمين واليهود والنصارى. وكان سلوك الصليبيين غير سلوك الخليفة الكريم عمر بن الخطاب حين وصل القدس منذ بضعة قرون. ولا يسعنا سوى الاعتراف بأننا لم نجد بين وحوش الفاتحين من يؤاخذ على اقترافه جرائم قتل كتلك التي اقترفت ضد المسلمين)[18]. إنها بحق شهادة منصفة على منهج الرحمة الذي أسسه نبي الرحمة في نفوس أتباعه صلى الله عليه وسلم.

لقد كان صلى الله عليه وسلم يتعامل مع المنافقين بظاهرهم مع علمه بهم وبنفاقهم حيث أطلعه الله تعالى على ذلك عن طريق الوحي وعرّفه بأسمائهم وصفاتهم، حتى كانت رجمته بهم مثار سخرية اليهود وطعنهم في سماحته وطيبته معتبرين ذلك منه ضعفاً وغفلةً وقلة ذكاء وفطنة، قال تعالى: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[19]. إنه سوء الأدب في حق الرسول صلى الله عليه وسلم من اليهود فإنهم يجدون من النبي صلى الله عليه وسلم أدباً رفيعاً في الاستماع إلى الناس بإقبال وسماحة ويعاملهم بظاهرهم حسب أصول شريعته ويفسح لهم في صدره . فيسمون هذا الأدب العظيم بغير اسمه ويصفونه بغير حقيقته ويقولون عن النبي صلى الله عليه وسلم "هو أذن" أي سمَّاع لكل قول ،يجوز عليه الكذب والخداع والبراعة، ولا يفطن إلى غش القول وزوره. من حلف له صدَّقه ومن دسَّ عليه قولاً قبله. يقول هذا بعضهم لبعض تطميناً لأنفسهم أن يكشف النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة أمرهم أو يفطن إلى نفاقهم أو يقولونه طعناً على النبي في تصديقه للمؤمنين الخلص الذين ينقلون له ما يطلعون عليه من شؤون المنافقين وأعمالهم وأقولهم عن الرسول والمسلمين. ويأخذ القرآن الكريم كلامهم ليجعل منه رداً عليهم وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ نعم ولكن أُذُنُ خَيْرٍ يستمع إلى الوحي يبلغه لكم وفيه خيركم وصلاحكم. وأذن خير يستمع إليكم في أدب ولا يجبهكم بنفاقكم ولا يرميكم ويخادعكم، ولا يأخذكم بريائكم، ويجري أمركم على الظاهر، ولا يفتش عن بواطنكم، ولا يسعى في هتك أستاركم. ويصدّق بالله وبما جاءه من عنده، ويصدّق المؤمنين لا أهل النفاق والكفر بالله، فيصدق كل ما يخبره عنكم وعن سواكم فيطمئن ويثق بهم لأنه يعلم منهم صدق الإيمان الذي يعصمهم من الكذب والالتواء والرياء وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ يأخذ بيدهم إلى الخير وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌمن الله، غيرة على رسول الله أن يؤذي وهو رسول الله. وبعد هذه الرحمة والخيرية استوجب العذاب الأليم كل من آذاه، لأنه إذا كان يسعى في إيصال الخير والرحمة إليهم مع كونهم في غاية الخبث والخزي، ثم يقابلون إحسانه بالإساءة وخيراته بالشرور، فلا شك أنهم يستحقون العذاب الشديد من الله تعالى. فلما أراد أن يستغفر لهم نزلت الآية تنهاه عن ذلك: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ[20] ، سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ[21].

وقد كان موت رأس النفاق آية من آيات رحمته صلى الله عليه وسلم بهم لقد أعطى رسول الله رداءه عبد الله بن أبيّ بن سلول زعيم النفاق ليكفن فيه وصلى عليه وأكثر من ذلك أنه استغفر له؛ حتى إن سيدنا عمر رضي الله عنه سأله متعجباً: لم تعطي قميصك الرجس النجس؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (إن قميصي لا يغني عنه من الله شيئاً فلعل الله أن يدخل به ألفاً في الإسلام)، فلما رأوه يطلب هذا القميص ويرجو أن ينفعه ، أسلم منهم يومئذ ألف ، فكانت الرحمة والرأفة غالبة عليه صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ[22]. وهذا موجود في حديث نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أن عبد الله بن أبي لما توفي جاء ابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أعطني قميصك أكفنه فيه وصل عليه واستغفر له فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم قميصه، فقال: آذني أصلي عليه فآذنه، فلما أراد أن يصلي عليه جذبه عمر رضي الله عنه فقال: أليس الله نهاك أن تصلي على المنافقين فقال: (أنا بين خيرتين، قال: استغفر لهم أو لاتستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) فصلى عليه فنزلت وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ[23] فترك الصلاة عليهم[24].

لقد أراد صلى الله عليه وسلم لهم الخير لكنهم رفضوه، وأراد بهم رحمة الله لهم لكنه لا يملك إلا أن يستغفر لهم حتى جاء النهي عن ذلك فتوقف طاعة لله تعالى، ولو أذن له لستمر يدعو لهم ويستغفر، فصلى الله عليك وسلم أزكى صلاة وأتم سلام يا نبي الرحمة ما تعاقب الليل والنهار.


[1] سورة الكافرون / الآيات 1-6
[2] سورة البقرة / الآية 256
[3] سورة الأنبياء / الآية 107
[4] سورة الأنفال / الآية 61
[5] سورة النساء / الآية 90
[6] صحيح مسلم 3261
[7] صحيح البخاري 3218
[8] سورة يوسف / الآية 92
[9] رواه بن إسحاق بإسناد حسن وابن كثير في البداية والنهاية (3/163) والبيهقي في السنن الكبرى (9/118) وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (4/300)
[10] نبي الرحمة والمحبة والسلام للدكتور بدران بن الحسن، موقع الشهاب الثقافي على الشبكة العنكبوتية
[11] صحيح البخاري 2694
[12] أخرجه بن إسحاق في المغازي واستشهد به بن حجر في الفتح
[13] سنن ابن ماجه 3303 وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (4/375). و القديد اللحم المقطع والمملح والمجفف بالشمس.
[14] سورة الإسراء / الآية 81
[15] رواه بن هشام بإسناد معضل 2/276 وهو في زاد المعاد (2/332)
[16] صحيح البخاري 3296
[17] صحيح البخاري 2244
[18] (حضارة العرب) غوستاف لوبون (270-325-327).
[19] سورة التوبة / الآية 61
[20] سورة التوبة / الاية 80
[21] سورة المنافقون / الآية 6
[22] سورة آل عمران / الاية 159
[23] سورة التوبة / الآية 84
[24] صحيح البخاري 5350



تعليقات القراء

متابع


صحيح مسلم » كتاب الجهاد والسير » :



1801 حدثنا إسحق بن إبراهيم الحنظلي ... عن ابن عيينة واللفظ للزهري حدثنا سفيان عن عمرو سمعت جابرا يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله فقال محمد بن مسلمة يا رسول الله أتحب أن أقتله قال نعم قال ائذن لي فلأقل قال قل فأتاه فقال له وذكر ما بينهما ... فدعوه ليلا فنزل إليهم قال سفيان قال غير عمرو قالت له امرأته إني لأسمع صوتا كأنه صوت دم قال إنما هذا محمد بن مسلمة ورضيعه وأبو نائلة إن الكريم لو دعي إلى طعنة ليلا لأجاب قال محمد إني إذا جاء فسوف أمد يدي إلى رأسه فإذا استمكنت منه فدونكم قال فلما نزل نزل وهو متوشح فقالوا نجد منك ريح الطيب قال نعم تحتي فلانة هي أعطر نساء العرب قال فتأذن لي أن أشم منه قال نعم فشم فتناول فشم ثم قال أتأذن لي أن أعود قال فاستمكن من رأسه ثم قال دونكم قال فقتلوه .



---------------------------------

السيرة النبوية لابن هشام .. باب غزوة زيد بن حارثة بنى فزارة و مصاب أم قرفة :

قال ابن إسحاق : فلما قدم زيد بن حارثة آلى أن لا يمس رأسه غسل من جنابة حتى يغزو بني فزارة ، فلما استبل من جراحته بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني فزارة في جيش فقتلهم بوادي القرى ، وأصاب فيهم ... وأسرت أم قرفة فاطمة بنت ربيعة بن بدر كانت عجوزا كبيرة عند مالك بن حذيفة بن بدر ، وبنت لها ، وعبد الله بن مسعدة ، فأمر زيد بن حارثة قيس بن المسحر أن يقتل أم قرفة فقتلها قتلا عنيفا ; ثم قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بابنة أم قرفة وبابن مسعدة .

-----------------------------------

صحيح البخاري كتاب المغازي

الحديث‏:‏



3754 قَالَ النَّبِيُّ مَنْ يَنْظُرُ مَا صَنَعَ أَبُو جَهْلٍ فَانْطَلَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَوَجَدَهُ قَدْ ضَرَبَهُ ابْنَا عَفْرَاءَ حَتَّى بَرَدَ قَالَ أَأَنْتَ أَبُو جَهْلٍ قَالَ فَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ قَالَ وَهَلْ فَوْقَ رَجُلٍ قَتَلْتُمُوهُ



















14-04-2013 11:17 AM
متابع
صحيح مسلم » كتاب الجهاد والسير » :

1752 حدثنا يحيى بن يحيى التميمي أخبرنا ... عن أبيه عن عبد الرحمن بن عوف .... نظرت إلى أبي جهل يزول في الناس فقلت ألا تريان هذا صاحبكما الذي تسألان عنه قال فابتدراه فضرباه بسيفيهما حتى قتلاه ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه فقال أيكما قتله فقال كل واحد منهما أنا قتلت فقال هل مسحتما سيفيكما قالا لا فنظر في السيفين فقال كلاكما قتله وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح والرجلان معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء

-----------------------------------

تفسير البغوي » سورة الأنفال » تفسير قوله تعالى " ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين ( 18 ) إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين ( 19 قوله تعالى : ( إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح ) وذلك أن أبا جهل قال يوم بدر ....وروي عن ابن مسعود أنه قال : قال لي أبو جهل : لقد ارتقيت يا رويعي الغنم مرتقى صعبا ، ثم [ ص: 342 ] احتززت رأسه ، ثم جئت به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت : يا رسول الله هذا رأس أبي جهل ، فقال : آلله الذي لا إله غيره ؟ قلت : نعم ، والذي لا إله غيره ، ثم ألقيته بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحمد الله - عز وجل - .



الشرح : كما ذكرنا قبل ذلك الرسول هتف فرحا" ورأس أبي جهل بين يديه .



14-04-2013 11:19 AM
نينا بدران
مشكور ايها المتابع بارك الله فيك
وجزاك الله خير
14-04-2013 03:01 PM

أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات