المقصلة الزائفة


جراسا -

شاب محكوم عليه بالاعدام ، بائس شُد وثاقه ، يداه مكبلتان الى عنقه ، والسلاسل ترن اجراسها في قدميه ، ثيابه ممزقة ، كتفاه عاريتان مدميتان ، تم جره في صباح يوم مشرق الى احد الساحات العامة حيث المقصلة المنتصبة هناك ، يراها ، يثور ، يرفض الموت ، جلادان يمسكان به ، يقاوم مقاومة شرسة ، يبطئ تقدمه بلف قدميه المقيدتين على سلم المشنقة ، تستمر مقاومته ، يسري الرعب ليصل جمهور المتفرجين ، الجلادون ، العرق المتصبب ، الخزي في الجباه ، الشحوب ، الرعب ، ثبوط الهمم ، منحني تحت الحكم بالهلاك ، الذي تحدده عقوبة الاعدام ، الجلادون يبذلون جهودا وحشية ؛ لانه يجب ان يبقى للقانون قوة ، يتشبث الرجل بالمشنقة طالبا العفو ، يقاوم دون توقف ، باكيا ، صاخبا ، مذعورا ، مناديا الله ، مناديا اباه وامه ، يُشد الى منصة الاعدام ، واخيرا يسقط رأسه متدحراجا امام جسده ، وتبقى المنصة منتصبة لم تهزم . ( مقتطف من ورافعة فيكتور هيغو ضد عقوبة الاعدام )

إن المقصلة ( اقصد بها عقوبة الاعدام ) تناهض الحق في الحياة الذي هو احد الحقوق الاساسية للأنسان ، الذي تم تضمينه في معظم الاتفاقيات الدولية الناظمة لحقوق الانسان ، وابرزها الاعلان العالمي لحقوق الانسان ، والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية ، ناهيك عن البروتوكول الاختياري الثاني للعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي يهدف الى الغاء عقوبة الاعدام ، والبروتوكول رقم (6) للأتفاقية الاوروبية لحماية حقوق الانسان والحريات الاساسية المتعلق بألغاء عقوبة الاعدام ، والبروتوكول الملحق بأتفاقية الدول الامريكية الانسان المتعلق بعقوبة الاعدام – هذه البروتوكولات الثلاث اجازت للدولة استعمال عقوبة الاعدام في الحرب فقط – والبروتوكول رقم (13) للأتفاقية الاوروبية لحماية حقوق الانسان والحريات الاساسية التي منعت استعمال عقوبة الاعدام في اي ظرف كان .

ان هذا التأكيد على الغاء عقوبة الاعدام يصب في بوتقة واحدة ، قوامها التسليم بأن الركيزة الاساسية في حقوق الانسان قائمة على كونها ثابتة وغير قابلة للأنتقاص تثبت للأشخاص بالتساوي ايا كان جنسه او عرقه او دينها ، ولا يجوز تجريد احد منها بغض النظر عن الجرائم التي ارتكبها الانسان ، فحقوق الانسان وجدت لحمايتنا جميعا ، فهي تنقذنا من انفسنا بالمقام الاول ، كما وتحمينا من العقوبات اللانسانية التي تغمس اصابعها في الدم الانساني لتقول له لا تقتل .

تعتبر عقوبة الاعدام من العقوبات القاسية والوحشية واللانسانية ، ونظرا لذلك فأنها اثارت الجدل العام منذ الازل ، واختلفت الاراء حولها ما بين مؤيد ومعارض لها ، اما الاتجاه المؤيد لتطبيق عقوبة الاعدام ، قدموا مجموعة من الادلة والحجج التي تفند رأيهم واذكر منها على سبيل المثال لا الحصر مايلي ، منتقدا اياها بالحجج والبراهين المثبتة علميا :

اولا :إن تطبيق عقوبة الاعدام من شأنه ان يحقق الردع بشقيه العام والخاص .
ان هذا التعليل غير دقيق من الناحية العملية ويعزى ذلك الى الاسباب التالية :
1- إن الدراسات العلمية عجزت عن ايجاد دليل مقنع على تحقيق عقوبة الاعدام للردع العام والخاص ، والجدير بالذكر في هذا المقام بأن الامم المتحدة اجرت دراسة مسحية عام 1988 وقامت بتحديثها عام 1996 و 2002 وخلصت الدراسة الى مايلي " ... البحث فشل في توفير دليل علمي على ان تأثير الاعدام كان اشد ردعا من تأثير الحبس المؤبد ، ومن غير الراجح ان يظهر دليل مثل هذا في المستقبل .

2- انخفاض معدل جرائم القتل في الدول التي الغت عقوبة الاعدام ، مثال ذلك كندا حيث الغت عقوبة الاعدام عام 1975 ، فانخفض معدل جرائم القتل لكل 100،000 نسمة من 3،59 الى 2،41 في العام 1980 ، واستمر المعدل في الانخفاض حيث بلغ في العام 2003 اي بعد 27 سنة من الالغاء 1،73 لكل 100،000 اي اقل مما كان عليه في العام 1975 بنسة 44%
ثانيا : ان تطبيق عقوبة الاعدام هو تأكييد على احكام الشريعة الاسلامية التي لا يجوز مخالفتها (القصاص ) .

ان هذا التعليل صحيحا من حيث المبدأ لكن هنالك اشكالية في فهمه ، يقول الرازي في هذا الخصوص ، ان العرب قديما في تعاملهم مع جريمة القتل كانو يوجبون القتل تارة (الثأر) وتارة اخرى يوجبون الدية ، وكانوا يظهرون التعدي في كل واحد من هذين الحكميين على النحو التالي :

1- التعدي في القتل كان يظهر جليه في حال وقعت الجريمة بين قبيلتين احدهما اشرف من الاخرى ، فالاشراف كانو يقولون لنقتلن بالعبد من الحر منهم ، وبالمرأة منا الرجل منهم ، وبالرجل منا الرجلين منهم ، فكان هنالك عدم تساوي في القتل فالقاتل يقتل بالاضافة الى قتل اخرين ابرياء من قبيلته ، وبالتالي لم يكن هنالك تسوية بالقتل وانما كان هنالك تعدي يتجاوز القاتل ليطال اقاربه الابرياء .

2- التعدي في الدية كان يظهر جليه في الظلم الناجم عنها فكانت دية الشريف اضعاف الرجل العادي ، وبالتالي لم يكن هنالك مساوة في الدية .

ونظرا لذلك كان لا بد من ضابط شرعي يراعي امر التسوية في القتل ، فلما بعث الله تعالى سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام ، اوجب رعاية التسوية والعدل في حكم القتل ، فأنزل الله تعالى ايات القصاص من سورة البقرة ، قال الله تعالى في محكم تنزيله : "يا ايها الذين امنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والانثى بالانثى فمن عفى له من اخيه شئ فاتباع بالمعروف واداء اليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب اليم (178) ولكم في القصاص حياة يأولى الالباب لعلكم تتقون(179)" . من سورة البقرة

ويستطرد الرازي قائلا " اذا بينا ان القصاص عبارة عن التسوية فكان مفهوم الاية ايجاب التسوية ، وعلى هذا التقدير لا تكون الايدة دالة على ايجاب القتل البتة ، بل اقصى ما في الباب ان الاية دالة على وجوب رعاية التسويى في القتل الذي يكون مشروعا وعلى هذا التقدير تسقط دلالة الاية على كون القتل مشروعا بسبب القتل".

اذن الله تعالى عندما شرع القتل كانت الغاية التسوية في القتل وليس ايجاب القتل وفرضه ، فالله تعالى منزه عن ذلك .

في هذا المقام لا يجوز ان نستحضر ايات القصاص ونغفل عن حكم مهم تم الاشارة اليه في سورة الفرقان ، قال الله تعالى :"والذين لا يدعون مع الله الها اخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله الا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق اثاما (68) يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا (69) الا من تاب وامن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما (70) ومن تاب وعمل صالحا فأنه يتوب الى الله متابا (71)" صدق الله العظيم سورة الفرقان.

هذه الايات تُسقط عن القاتل التائب العقوبة حتى العقوبة الاخروية لا بل وينقلب عمله السئ الى حسنات.

لما كانت الحجج المقدمة من انصار الاتجاه المؤيد لتطبيق عقوبة الاعدام ، بالامكان دحضها والرد عليها فأنني انضم لصفوف الاتجاه المعارض لتطبيق عقوبة الاعدام ، الذين قاموا بتفنيد رأيهم بالارتكاز على مجموعة من الحجج والبراهين اذكر منها على سبيل المثال لا الحصر مايلي:

1- عقوبة الاعدام عقوبة قاسية ولا انسانية وفي تطبيقها انتهاك لحق الانسان في الحياة
2- ان التطبيق العملي لعقوبة الاعدام لم يثبت بشكل جازم امكانية تحقيق الردع العام والخاص
3- في حال التسليم بتطبيق عقوبة الاعدام فأنه لا يمكن تصحيح اخطاء القضاء في تطبيق العقوبة ان وجدت ، ناهيك عن امكانية تطبيق العقوبة على البعض وعدم تطبيقها على البعض الاخر .
4- الدولة عندما تمنح نفسها الحق بتطبيق عقوبة الاعدام فانها تضع نفسها بالتساوي مع القاتل فهي تقتل لتقول له لا تقتل .

نتيجة لذلك فانني اقدم جملة من الحلول البديلة التي يمكن الاستعاضة بها عن تطيق عقوبة الاعدام ، وتجاوز اثاره السلبية ، وهذه الحلول هي :
1- استبدال عقوبة الاعدام بالحبس .

اذا كان الهدف من عقوبة الاعدام استئصال المجرم من المجتمع وضمان عدم ارتكاب الجريمة مرة اخرى من قبله فأن الحبس كفيل في تحقيق هذه الغاية ، اذ ما تم زج المجرم بالسجن فانه يصبح قابعا خلف القضبان ، وبذلك يتم اقتلاعه من صفوف المجتمع بحيث يصبح غير قادرا على ارتكاب افعال عنف ضد المجتمع الامر الذ من شأن ان يجعل عقوبة الاعدام غير ضرورية كأسلوب لحماية المجتمع . 

بعد قراءة هذا الجزء ان على يقين بأن البعض سيقول ان الحبس يكون لفترة معينة حتى وان كان مؤبدا ، وبعد انقضاء هذه المدة سيعود المجرم مرة اخرى لارتكاب جرائمه ، الرد على هذا النقد يكمن في ضرورة مراجعة اجراءات الافراج المشروط بهدف منع العودة الى الجريمة وليس زيادة عدد حالات الاعدام. 

2- معالجة اسباب الجريمة.
ان المنطق يفرض علينا اقتلاع المشكلة من جذورها وهذا لن يتحقق الا بمعالجة اسباب الجريمة ، والدولة ليست عاجزة عن ذلك ، هولندا مؤخرا اغلقت ثمان سجون لعدم وجود جرائم مرتكبة ، فهذه الدولة عالجت اسباب الجريمة فانخفض معدلها ونحن لا نعالج اسباب الجريمة وانما نحاسب المجرم بينما اسباب الجريمة ما زالت موجودة.

3- اصلاح المجرم وتأهيله والاستفادة منه كعضو فعال ومنتج بالمجتمع.
ان عقوبة الاعدام ما هو الا اجرء كسول وتنصل ثلاثي ن المسؤولية ، تنصل من معالجة اسباب الجريمة ، وتنصل من اعادة تأهيل المجرم واصلاحه وتحسين اوضاع السجون ، وتنصل من حقوق ذوي المجني عليه.

في ختام مقالي اود القول بان الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية ، قد لا ينسجم رأيي مع اراء الغالبية العظمة المؤيدة لعقوبة الاعدام ، ودائما الراي الصواب يحتمل الخطأ والراي الخطأ يحتمل الصواب.

للمزيد حول عقوبة الاعدام انظر مجلة موارد العدد 15 الخاص بعقوبة الاعدام ، منظمة العفو الدولية ، المكتب الاقليمي للشرق الاوسط وشمال افريقيا ، بيروت ، 2010

أ.معاذ منصور الحميمات
جامعة الاسراء



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات