سائق الشاحنة


ودّع أهله من غير كلام , وهو من تعوّد على الغياب , ولم يتعوّد على الوداع , يعرف انّه سيقود شاحنته التي اصبح بينه وبينها عشرة طويله , السفر الى العقبة ثم الى بغداد و ربما ابعد , يقطع مسافات طويله على طرق صحراوية ليس فيها شجر , خالية الّا من الافاعي والعقارب والحيوانات التي تستطيع العيش في هذه الصحراء القاحلة , تفقّد العجلات , فهي اهمّ شيء كما قال له ابوه الذي امضى عمره في السفر ينقل البضائع ويعرف الطرق جميعها , غدرها وقسوتها , والتي قليلا ما كانت حانية عليه , ولما كان صغيرا اخذه معه في رحلات طويله , كان الولد في البداية يستمتع بالرحلة , ثمّ ما لبث ان اصبحت حياته مرتبطة بهذه الالة التي سيقودها سنين طويلة من عمره , على طرق سيحفظ مسافتها التي تزيد عن الألف كيلو , والقرى القليلة التي سيمر بها , حتى الدكاكين والاكشاك الصغيرة التي ارتسمت بخياله على طول الطريق اصبح يعرف كلّ مالكيها .
اخرج مقياس الزيت من مكانه , وهو الذي تفقده بالأمس , لمّا أوقف محرك السيارة , و لكن لا ضير من تفقدّه ثانية , وفتح غطاء المشع حافظ الماء , ولم يجد نقصا , ثمّ أدار المحرّك وتفقّد زوّادته التي اعدتها له امّ العيال قبل ان تنام , فهو يحب ان تكون اغراضه التي سيأخذها معه جاهزة سلفا , نعم , كل شيء على ما يرام , توكلّ على الله وبسمل , ولكنّ ابنه الصغير الذي قبل ان ينام الحّ في ان يرافق ابيه في سفرته هذه , لكنه لا يرغب في اخذه معه , فهو يخاف ان يتعلّق ابنه في القيادة , قيادة الشاحنة , وهو صغير على ذلك ويريد له ان يدرس ويتعلّم علّه يحصل على شهادة تريحه من هذا العذاب , وتكون له عونا في المستقبل , فهو يعرف تماما متاعب هذه المهنة , قيادة الشاحنة صعبة, أقلها ان اضطر لتغيير اطار , وهذا كثيرا ما يحصل , ولكنّ الولد سلّم على والده وركب بجانبه , بعد ان القى تحية الصباح , وتبسّم الوالد.
كان الحمل الذي قذفته الروافع في العقبة داخل الشاحنة ثقيل , والآلة اخذت تتهادى على الطريق الصحراوي وقد بدأت الشمس ترتفع في السماء , وهي في شهر آب لا ترحم , ان توسطت السماء , وهو يعلم ان شمس بغداد اقسى , المدينة الكبيرة التي عليه ان يفرغ الحمل فيها , والطريق الملتوية احيانا كالأفعى , والمستقيمة احيانا تجعله يتسلّى بالنظر احيانا الى ابنه الذي نعس ونام , او بالتفكير بزوجته وبناته اللواتي تركهن في البيت , وهو يعلم انها اخت الرجال وستحافظ على بيته في غيابه , أو في رفيق دربه ابو سالم الذي قضى في حادث قبل اشهر , لم يكن هو المتسبب فيه , ولكن طيش الشاب المسرع في السيارة التي اتت من الجهة المقابلة .
وصل المنفذ الحدودي ووجد زملاء له يتممون الاجراءات ايضا للدخول في شاحناتهم الى العراق , واخذوا يسيرون على الطريق المؤديّة الى بغداد في سرب واحد , ينظرون حولهم الى الارض العظيمة في البلد العظيم , الى صحراء ممتدّة على جانبي الطريق , لكنّ فيها سرّ الوجود , لهم ولعائلاتهم , ولبلداتهم التي تنتظر عودتهم ليفرغوا ما تحصلوا علية من نقود فيها , وليبقوا على هذا الحال هم والكثير من ابنائهم , الذين امتهنوا قيادة الشاحنات المحملات بالبضائع الى كلّ مدن العراق , لسنين لم تستمر طويلا , لان صنّاع الحرب غيّروا المعادلة , ولم تعد الشاحنات تسير الى هناك , الاّ القليل منها , وأخذ سائق الشاحنة وابنه يبحثون عن عمل آخر , ولو بأجر قليل يسدّ رمقهم ويطعم أبنائهم , على أمل ان يعود العراق عراقا , وتستقبلهم بغداد مع شاحناتهم , بالترحاب مرّة اخرى



تعليقات القراء

جسار
ذكرتني بالمثل..رضينا بالهم والهم ما رضي فينا
23-08-2015 02:26 PM

أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات