رواية رغبة الإنتقام .. (الجزء الرابع و قبل الأخير)


نظر الدخيل الى مستشفى القصر العيني أمامه، كانت تفصله عن مدخله الرئيسي بضعة أمتار و لكن المرض و التعب الذي كان يشعر به جعله يشعر أنها كيلومترات طويلة و بلوغ البوابة سيكون رحلة طويلة و مضنية، كانت الدماء تملئ قميصه الذي كان يرتديه و التمزقات تملئ بنطاله حيث وقع على الأرض عدة مرات اثناء مسيره من التعب و الإرهاق، حاول عدة مرات ايقاف سيارة تكسي لتقله الى المشفى و هو في أول الطريق بعد و لكن الدماء على قميصه و ملامح وجهه المتعبة أشعرت السائقين بالتوتر و الخوف، فكانوا يرفضون صعدوه الى سيارتهم و إيصاله الى المشفى،
كان يسير بالشارع العام منذ نصف ساعة تارة تسيل الدماء من فمه و تارة تتسرب قطرات منها من أنفه، بلغت الآلآم درجات لا تطاق أثناء مشواره فكان يصرخ من شدتها من حين لآخر كالمجنون و لكن سلوكه بالشارع لم يفلح حتى بجعل اي أحد يتوقف ليسأله عن مصابه، فكان بمفرده برحلة عذاب مريرة تجعله يسير كالسكران على رصيف الشارع من الأوجاع لمحاولة بلوغ مشفى قصر العيني، فكان أقرب مشفى اليه منذ أن ابتدأ مسيره من شارع الكورنيش...
توقف فجأة بعد ما ظن أنها لحظات طويلة من المسير و نظر الى السماء من فوق، كانت صافية من دون اية سُحُبْ أو غيوم و كان قرص الشمس في منتصف السماء فلهيب الظهيرة كان كالنار الكاوية من حوله، كانت قطرات العرق تملئ جبينه و ذراعيه فأخرج محرمة من جيبه و مسح العرق المنساب على وجهه، فجأة إمتلأت الأجواء بأصوات الآذان من الجوامع من حوله و سمع أصوات أجراس كنيسة على مقربة منه، تراقصت بوابة القصر العيني أمام ناظريه بصورة غير واضحة فظن أنها تتراقص من قطرات العرق المنسابة على عينيه...مسحهما بسرعة ليحاول النظر الى البوابة و لكنها اختفت من أمامه...لم تعد موجودة...أين ذهب المشفى؟
فجأة ظَهَرَ له شخص يسير على الرصيف على مسافة منه...كان كَسَراب الصحراء في بادئ الأمر يتراقص تحت أشعة الشمس الحارقة و لكن مع مرور الوقت اقترب منه أكثر و تَوَضًحَتْ ملامحه، نظر اليه بتمعن فكان وجهه مألوف جدا، فأقترب منه و سأله
"يا أخ أين القصر العيني..." و لكن سرعان ما صرخ قائلا "ألم تمت...قتلتك بيداي! ابتعد عني!"
ابتعد الطيف فجأة عنه ليترك الدخيل يتخبط بمفرده كالمجنون في الشارع من شدة الخوف و يُطَوِحْ بيديه ليبعده عنه أكثر، صرخ مرة ثانية "أنا قتلتك منذ فترة...ابتعد عني!"، فجأة ترآت له بوابة القصر العيني من جديد، شعر بإرتياح و استجمع ما تبقى من قواه و سار الى حيث اعتقد أنها موجودة و لكن فجأة سمع أبواق السيارات تملئ الأجواء...و سمع أصوت زعيق عجلات من حوله، صرخ بشدة حينما رأى سيارة تحاول التوقف و هي تتجه نحوه...ارتطم جسده بها فصرخ من شدة الألم ثم سقط على الأرض، تكاثرات بسرعة وجوه كثيرة و غريبة من حوله و هو ملقى على الأرض ينزف من شدة الحادث، كانت أصواتها في بادئ الأمر واضحة و لكن سرعان ما تحولت الى همسات ضعيفة ثم ساد السكون عالمه...
*******
نظرت ندى الى الإمرأة الباكية أمامها و هي تسير ببطئ بين القبور لتبلغ قبر عبدالجبار، كانت منطقة القبور خالية من الناس إذ كانت الساعة السابعة صباحاً بعد و لم تُسْمَعْ بالأجواء إلا أصوات طقطقت نعلها و هي في طريقها بإتجاه قبر قاتلها، كانت نسمات الصباح الدافئة تداعب وجنتيها و هي تسير بحذر بإتجاه المرأة التي كانت راكعة أمام القبر مرتدية جلباب أسود فاقتربت منها أكثر و في نيتها السلام عليها، و لكنها سمعت بعض من آيآت القرآن بين شهقات بكائها و كأنها تصلي، فتملكتها فجأة رغبة بالعودة دون إزعاجها على الإطلاق، فخلعت نعليها لئلا تحدث ضجة اضافية و هي تستدير للعودة و لكن سرعان ما نهضت المرأة و استدارت في مكانها،
نظرت اليها ندى و قالت بِرِفْق "آسفة يا ست راوية، فحينما رأيتكِ تصلي لم أقصد قطع خلوتكِ مع فقيدكِ"،
اجابت و الدموع بعينيها "رحل زوجي و تركني وحيدة أنا و ولدين، رحل بسرعة من دون حتى أن يعطيني الزمن إنذار بأن موعده قد اقترب...قُطِفَتْ حياته فجأة من شجرة الحياة على يد الموت ليترك غصة مريرة بحلقي..."
ابتسمت ندى ابتسامة صغيرة و قالت "هذا كأس سيشرب منه الجميع يا أختي، رحمه الله..."
"أهٍ لو أعلم من قتله...كان سَيُشْفى لو لا غَدَرَهُ أحدهم...تيتموا أولالدي يا دكتورة...تيتموا أولادي باكرا..."
فكرت في ذاتها ندى "يا لسخرية الاقدار...فكادوا أولادي أن يتيتموا على يديه يا راوية..."، أجابت مواسيةً راوية "هونِ عليكِ، فربما تكون ارادة الله ان يسافر عنا باكرا"،
فجأة تنبهت راوية لأمر وجود ندى في المقبرة، فسألت "دكتور هل أنت في زيارة لقبر عزيزٍ عليكِ في هذا الوقت الباكر؟"،
ارتبكت ندى من سؤال راوية، فلم تجد ما تقوله لها ففي حقيقة الأمر كانت تعلم أن ضميرها دفعها لزيارة قبر عبدالجبار...ضميرها الذي أنًبَها على محاولت قتله في الأمس، ارتدت نعليها من جديد بهدوء ثم استجمعت قواها بعد دقيقة صمت و أجابت راوية
"أتيت لأطلب من روحه أن تسامحني؟"
ارتسمت علامة الإستغراب على وجه راوية و أجابت "على ماذا؟ ماذا تقصيدين؟ في حقيقة الأمر أنا من يجب أن أطلب منكِ المغفرة لزوجي خصوصا بعد أن أخْبَرَتْني الشرطة عن نِيَتِهِ قتلكِ، أرجو أن تعفرِ لزوجي...فقد مات و رحل عن عالمنا،"
سال الدمع من عيناي ندى و صرخت بوجه راوية "انت لا تعلمي ما كنت سأرتكب يا راوية..."، استدارت ندى و ابتعدت عن راوية قليلا و مسحت دمعتها و هي تقول "بعد أن علمت بأنه حاول قتلي من الشرطة تملكتني رغبة شديدة بالإنتقام...فحينها رأيتكِ تغادري غرفته بعد أن استيقظ من المخدر، و أمسكت عبلة من المورفين و كدت أن أغرز في المصل جرعات زائدة للإنتقام...و لكن ردعني عن فعل ذلك اتصال هاتفي،
تغيرت تعابير وجه راوية و غَطًتْ ملامحها الصدمة الشديدة، سارت بضعة خطوات و وقفت أمامها، أحست فجأة بالغضب الشديد مما قالته...فرفعت يدها و صفعت ندى صفعة قوية دوت صوتها بين القبور من حولهم، اهتزت ندى في مكانها قليلاً من شدة الصفعة ثم نظرت اليها برهبة، أدركت بأنها تسرعت كثيرا بإخبار راوية بهذه الحادثة...و لكن عذاب ضميرها كان يخنقها لدرجة لا ترحم بتاتا، فكانت تعلم بسرها أنها اعترفت لراوية بهذا الأمر لتبحث عن مغفرة من عائلة عبدالجبار و لتجد حل لعذاب ضميرها، ساد الصمت بينهم لدقيقة لم يُسْمَعْ بها إلا تغاريد عصافير كانت تقف على بعض القبور القريبة منهم،
لم تجد الإمرآتان كلام لتقوله بهذا الموقف الغريب، فسارت راوية نحو القبر و التقطت حقيبة يدها ثم ابتدأت بالسير بعيداً عن ندى، انهارت ندى و ابتدأت بالبكاء الشديد مما دفع راوية للتوقف فجأة، إلتفت اليها و قالت "دموع الندم يا دكتورة؟"،
أجابت و هي تبكي "صفعتكِ مُرًة يا راوية...و لكنها الدواء الذي كنت أحتاجه ليسكت ضميري عني...و لكن لا تنسي أنني لا أتحمل هذه المسؤلية بمفردي، فزوجك استفزني...جعلني أنسا أنني طبيبة أداوي البشر لبرهة من الزمن و أجبرني لكي أُخْرِجْ مخالبي مثل الوحوش لأحاول قتله..."
"و حينما تتحول الملائكة للشياطين...فهل هذا هو الحل؟ ان نعالج الخطئ بالخطئ...و ما تفعليه يا دكتور و تقوليه على التلفاز في برنامجِ ضد تعاليم ديننا و يخالف تعاليم شريعتنا، أنت من استفزيتِ عبدالجبار و أمثاله للخروج عن طبيعتهم المسالمة و الهجوم عليكم...و رغم ذلك كنت أقول له مرارا و تكرارا انها طبيبة و يحق لها أن تطرح وجهة نظرها و كنت اجعله يندم دائما على هجومه عليكِ و على زملائكِ بالحقل الإعلامي...
"و لما هذه القسوة علينا، أنتم من تريدون تحويل مصر الى بلاد ثقافتها ضيقة الأفق و خلق ثقافة لا تناسب عصرنا إطلاقا، نحن نعيش بعصر تَنَوًرَتْ به نفوس البشر كثيرا فلا نحتاج الى من ينزع منا العلم و الثقافة و الفنون من ديارنا..."
"هذا ليس وقت النقاش يا دكتورة...نحن بوسط مقبرة للموتى...اغلقي النقاش بهذا الموضوع،"
"جميعكم تتصرفون هكذا حينما لا تجدون ما تجيبون به نقاشنا..."
"كفا يا دكتورة، فأنا حرة لأعتنق ما أشاء من معتقاد"،
"قولي لي يا راوية، من عالج زوجكِ إلا المرأة التي هاجمها بأنها ضلع ناقص عن الرجال بالمجتمع و بأنها سيئة الخُلُقْ،"
أجابتها بغضب "و حاولتِ قتله"،
"و ردعني الله و الظروف عن فعل ذلك، و لكن تذكري بأن الحضارة نافعة لمصر و الثقافة التي تتمتع بها مصر و وسطية إسلامها دامت أكثر منكم لأهلها..."
أجابة صارخة "و هل غناء المتبرجات و الفتيات باللباس الخليع حضارة؟"
"و هل تستطيعين الجَزْم بأن كل النساء المحجبات يا راوية ملائكة أطهار؟! هذا ليس مقياس، ثم أن مصر بها فنون منذ 105 أعوام و رَحًبَتْ بفنونا جميع البلدان العربية و العديد من البلدان الغربية، فهل بعد هذا الدهر سنقتنع بأن الفن حرام؟ بالله عليكِ قولي لي ما يقنعني،"
"و هذا المنكر الذي ينتشر في بلادنا، ألم يحرمه الله بالقرآن؟ لا أشعر بأنه مناسب لثقافتنا الإسلامية إطلاقا، "
"أنتِ تعلمي جيدا أن الأبن البار لإيمانه سيمتنع عن الشرب لأنه مقتنع بأنه حرام و ليس لأنه مُحَرًمْ بالمجتمع، هل سَنُجْبِرْ البدان الأوروبية بإيقاف صنع الخمور و بيعها في محلاتهم لأن هنالك مسلمون يعيشون بوسطهم؟ نحن نعيش بعصر تغيرت مفاهيم المجتمع و الدولة به كثيرا، أنتم تتمسكون بصورة غير مَرَِنَة عن الإسلام و تثبتون للعالم أن الإسلام دين لا يستطيع مواكبة تطورات المجتمعات الفكرية و الثقافية ،"
فجاة تترك راوية الحديث و تسير لتناديها ندى بصوت عالي و تصرخ قائلة"هيا اهربِ مني! فهذا هو الحل المناسب دائما عندكم! متى سنلتقي و سنتفق على شيئ واحد فقط! تذكري كلامي يا راوية كي يسكن السلام في نفسكِ...العالم لن يأتي على ذوقنا الخاص دائما! هيا احرقوا مصر بما فيها من مسلمين فهم يؤمنون برسول غير الرسول عليه الصلاة و السلام الذي تؤمنون به...نحن إسلامنا وسطي و نؤمن بنفس القرآن الذي تؤمنون به و بنفس الرسول شِئْتُمْ أم أبيتم!...رواية عودي و كلميني هيا!"
يتبع



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات