أثر التربية الجهادية في جيش الكرامة


جراسا -

د. نوح مصطفى الفقير- في ذكرى الكرامة لنا ذكريات عطرة، فقد كان يومُها يوماً عظيماً، فرحنا فيه بنصر الله، ودحرنا الأعداء عن أرضنا، وتشبثنا بعقيدتنا؛ إذ لمّا هجم أعداؤنا براً وجواً باتجاه مرتفعات البلقاء؛ وهجموا هجوماً شرساً؛ جاءوا من فوق الناس، ومن أسفل منهم، وبلغت القلوب الحناجر، ورأى الناس الموت؛ ازداد المرابطون من منتسبي الجيش العربي الأردني ثباتاً، وقوة، ولم يستغربوا فعل أعداء الله؛ والمجاهدون كعادتهم؛ لم يغفلوا عن أسلحتهم، وكيف يغفلون؟! وهم يتلون قول الله تعالى: {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً} (102) سورة النساء، لكنهم آزروا السلاح بالمعنوية، وتذكّروا قول السلف: (والله ما نقاتلهم بعدد ولا بعدة، ولكن بهذا الدين الذي أكرمنا الله به!!)، لقد تشبث المرابطون بالأرض؛ وتجمعّوا، وتآزروا، استعداداً للجهاد، وعلت أصوات المجاهدين بالتكبير، وهيأوا أنفسهم للشهادة في سبيل الله، وكأني بالشهداء قد شمّوا رائحة الجنة في أرض الكرامة.

لكن ما هي الأسس التي أرستها القوات المسلحة حتى أثمرت ثباتاً في الأرض، وتمسكاً بالوطن وحباً للشهادة في سبيل الله؟ والجواب: أنهم تمسكوا بالأسس والمبادئ الآتية:

أولاً: لقد تشبث (بقية الجيش المصطفوي) بمبادئ المدرسة النبوية؛ تلك المدرسة التي نجحت في غرس العقيدة القتالية، ورباطة الجأش، والصبر والمصابرة في ساحات الوغى؛ وذلك لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (200) سورة آل عمران، وبالثبات تنال الجيوش مناها، وتبلغ مقصودها، ولقد كان لمديرية الإفتاء بالتآزر مع سائر الجهات التربوية والتعليمية والتوجيه المعنوي في الجيش الأردني وعلى مدار السنوات الماضية الأثر الطيب، والخير الصيب؛ في هذه الرعاية حتى آتت أكُلَها إذ قاموا بمسؤوليات عظيمة، ودفعوا مخاطر جسيمة.
ثانياً: تعلّموا أن الله اختارهم مجاهدين وشهداء في سبيله: فلقد اختار الله لهم طريق الجهاد بقوله سبحانه : {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمُْ} 78 الحـج، كما رفع منزلة الشهداء عنده سبحانه، وإكرامهم؛ وكان لهذا التكريم الأثر الواضح على قلوب المجاهدين؛ فتعلّقت قلوبهم بحب الاستشهاد في سبيل الله؛ ليكونوا من شهداء الدنيا والآخرة؛ الذين يقاتلون في سبيل الله أعداء الله، وقد تحقق الشرط في أرض الكرامة، وقد تذكروا رسولهم e، وهو يحرض أصحابه على القتال، ويدعوهم إلى الجنة؛ فها هو رَسُولُ اللهِ e يوم بدر يقول لأصحابه: "قُومُوا إلَىَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ" رواه مسلم، وكان السلف الصالح يعتبرون الشهادة في سبيل الله فوزاً؛ فكان المجاهد يستبشر بالشهادة، ويودع الدنيا بقوله: فزت وربِّ الكعبة؛ كما ورد في قصة بِئْرِ مَعُونَة؛ فعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بَعَثَ النَّبِيُّ e أَقْوَامًا مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ إِلَى بَنِي عَامِرٍ فِي سَبْعِينَ، فَلَمَّا قَدِمُوا قَالَ لَهُمْ خَالِي حَرَام بن مِلحان: أَتَقَدَّمُكُمْ فَإِنْ أَمَّنُونِي حَتَّى أُبَلِّغَهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّه e، وَإِلا كُنْتُمْ مِنِّي قَرِيباً، فَتَقَدَّمَ فَأَمَّنُوهُ فَبَيْنَمَا يُحَدِّثُهُمْ عَنْ النَّبِيِّ e إِذْ أَوْمَأوا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ فَطَعَنَهُ، فَأَنْفَذَهُ، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَة!! رواه مسلم؛ ولهذا كان الصحابة يتسابقون إلى الشهادة؛ وكان الأطفال يبكون طلباً للشهادة، فعَنْ عَامِرِ بنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيْهِ، قَالَ: رَدَّ رَسُوْلُ اللهِ e عُمَيْرَ بنَ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ بَدْرٍ، اسْتَصْغَرَهُ، فَبَكَى عُمَيْرٌ، فَأَجَازَهُ، فَعَقَدْتُ عَلَيْهِ حِمَالَةَ سَيْفِهِ، وَلَقَدْ شَهِدْتُ بَدْراً وَمَا فِي وَجْهِي شَعْرَةٌ وَاحِدَةٌ أَمْسَحُهَا بِيَدِي.

ثالثاً: لقد تعلموا أن الفرار من الزحف كبيرة من الكبائر؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (16) سورة الأنفال، فلا يجوز النكوص، ولا التقهقر، وهكذا كان، فلقد قرأنا في تاريخ الكرامة أن أكثر المجاهدين كان يقول أحدهم: لن أتزحزح من مكاني، ولن تمرّ دبابات العدو، فإن مرّت فلن تمرّ إلا على جسدي!! ولا تستغرب هذه المقولة من مؤمن شمّ رائحة الجنة، وما أقرب هذه العبارة من قول سعد بن معاذ لرسول الله e: (والذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد)، وشتان بين الذين يقولون هذا، وبين الذين جاءوا مسلسلين إلى أرض الكرامة، كما جاءوا يوم فحل وقد سلسلوا المقاتلين، فسهّل الله قتلهم، إنها روابط مختلفة؛ رابطة الإيمان بين المجاهدين، ورابطة الجنازير بين الكافرين، ورباط الإيمان أوثق وأثبت.

رابعاً: الشجاعة والإقدام وعدم التهيّب في أصعب المواقف، ووحدة الصف والقلب؛ فالشجاعة متوارثة بين المؤمنين، وقائدهم e كان يتقدمهم في غزواته، ويهتف أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب، وأما وحدة الصف فلقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ} (4) سورة الصف، وأثمرت هذه الوحدة تآزراً، وقوة، ومنعة، فما كان ينزل أحد جنود العدو بمظلته حتى تتناوشه الحراب من كل صوب، دون خوف؛ يرددون: إنما هي إحدى الحسنيين، والمنيّة ولا الدنيّة.

خامساً: التأهب الدائم وإعداد العدة؛ لقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعًا} 71 النساء، وتنفيذاً لقوله تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} (60) سورة الأنفال، وليس معنى ترهبون كما يفهم الناس اليوم من معنى الإرهاب، وإنما هي إستراتيجية الردع؛ كما يفهمها العسكريون؛ ومن خلال هذه الإستراتيجية تدربوا؛ لأن الرسول e قال: (ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان رامياً) رَوَاهُ البُخَارِيُّ، وقال الرسول e: (مَنْ عَلِمَ الرَّمْيَ ثُمَّ تَرَكَهُ، فَلَيْسَ مِنَّا، أَوْ قَدْ عَصَىَ‏) رواه مسلم، فالتدريب عبادة يُثاب فاعلها.

سادساً: التكبير من أسباب النصر؛ فها هو الرسول e يقول يوم خيبر:( اللهُ أَكْبَرُ خَرِبَتْ خَيْبَرُ، إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ" قَالَهَا ثَلاَثَ مَرَّات) متفق عليه، والتكبير سبب للثبات والنصر؛ وفي الكرامة المئذنة التي كانت تكبر الله بقيت شامخة إلى يومنا هذا!! ولا غرابة فلقد أسمعت التكبير وعلمته المجاهدين.

سابعاً: التبرك بالعبادات، والاعتصام بأسباب النجاة؛ فقد كان فيهم من صلى الفجر في المساجد التي بنتها القوات المسلحة في وحداتهم؛ ورَسُولُ الله e يقول: "مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ اللَّه، فَلاَ يَطْلُبَنَّكُمُ الله مِنْ ذِمَّتِهِ بِشَيْءٍ فَيُدْرِكَهُ فَيَكُبَّهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ"، ولقد كان بعض المحافظين على صلاة الفجر من منتسبي القوات المسلحة يسخّن الماء للناس في المعسكر ليتوضأوا بالماء الساخن إعانة لهم على الصلاة، ولقد كانت فيهم نية الجهاد في سبيل الله؛ حذراً من النفاق؛ فقد قال الرسول e: (من لم يغزو ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق) رواه مسلم.

ثامناً: تذوّق حلاوة النصر؛ فإلى يومنا هذا نشعر بنشوة النصر التي أكرمنا الله بها في الكرامة، ونتطلع إلى المزيد، وما زالت جحافلنا تتوق إلى تلك الذكريات العطرة؛ اللهم انصرنا كما نصرت رسولك محمداً ...........أمين.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات