النائب رولا الحروب .. الاردن بين البراكين الثائرة والخامدة


جراسا -

لا شك ان الاردن يعيش مرحلة تاريخية حرجة يعاد فيها تشكيل خرائط الاقليم بناء على اسس مذهبية وعرقية وطائفية، ويعاد فيها ايضا تشكيل حكومات الاقليم في ظل ثورات شعبية لم تستكمل مساراتها بعد، بل إن هذه المسارات قد انعكست في كثير من البلدان العربية التي شهدتها، حتى ان معظمها يشهد اليوم ثورات مضادة عادت بالقوى القديمة الى سدة الحكم من بوابات التغيير المزعوم.

ولا شك ان الحرب على الارهاب والفكر المتطرف لم تعد حربا محلية او اقليمية وانما حرب عالمية اعادت تشكيل اجندة الدول واعادت بناء التحالفات على اساس " من ليس معي فهو ضدي"، كما أفرزت صراعات الاقليم محورين عالميين جديدين، قد يمهدان لعالم متعدد القطبية، ستتضح معالمه بعد تحديد الفائزين والخاسرين، وهل سيجرنا المعسكران الى حرب عالمية ثالثة، في طريقهما لاعلان الفوز والخسارة، أم يُكتفى بالشرق الاوسط وأوكرانيا ساحة لتصفية الحسابات وتنفيذ الحروب بالوكالة!

وفي ظل هذه العوامل : محاولة قيام دول جديدة على انقاض دول قديمة، وتغير نظم الحكم في الاقليم، وتطور حركات الارهاب فكرا ومنهجا وعملا، وبزوغ محاورعالمية واقليمية جديدة ، يجد الاردن نفسه مضطرا للتخلي عن سياسة الحياد التي طالما انتهجها تجاه دول الجوار وكثير من قضايا العالم والاصطفاف في معسكر الحرب على الارهاب من جهة، ودعم نظم سياسية معينة و حركات ثورية معينة من جهة ثانية رغم تناقض خطها السياسي الظاهري وإن كانت تتشارك في نفس مصادر الدعم والتمويل، وبناء علاقات ايجابية مع مشاريع الدول الجديدة التي تطل برأسها في الاقليم، وهو ما سبب ارباكا لدى بعض النخب السياسية التي اعتادت فلسفة الحياد في سياسة الاردن الخارجية، وما زالت تطالب بالعودة الى ذلك المربع الذي غادره الاردن منذ امد ليس بقصير.

داخليا، لا شك ان الوضع الاقتصادي في المملكة يشكل تحديا كبيرا، خاصة في ظل موجات اللجوء القسري التي ارهقت الاقتصاد والبنى التحتية وزادت اعباء الموازنة، وتراجع الاستثمارات الداخلية والخارجية مقارنة بسنوات ما قبل الربيع العربي، ومنافسة العمالة الوافدة، وهو ما ادى الى تصاعد نسب البطالة لتكون الاعلى في الاقليم، بالاخص بين الشباب المتعلم، وتوسع بؤر الفقر جغرافيا وديموغرافيا، وتفشي امراض سوء الادارة والواسطة والمحسوبية جراء التنافس على فرص محدودة في سوق معقد، واستفحال ثقافة القفز فوق القانون، وغياب الشفافية وتراجع قيم النزاهة على كل المستويات، والاستمرار في سياسات الاقتراض التي أدت الى خرق قانون الدين العام جراء تجاوز المديونية 85% من الناتج المحلي الاجمالي، والتباطؤ المخل في معالجة ازمات الطاقة واللجوء الى الطريق الاسهل برفع الاسعار بدلا من توفير الحلول والبدائل.

اما الاصلاح السياسي فهو منذ اكثر من عامين في حجرة معتمة ضيقة تشبه كثيرا ثلاجة حفظ الموتى، فحرية الرأي والتعبير في تراجع منذ اقرار قانون المطبوعات والنشر المعدل عام 2012 وقانون محكمة امن الدولة المعدل في 2013، وقانون منع الارهاب المعدل مطلع عام 2014 ، وموجة الاعتقالات السياسية لاصحاب الرأي والمشاركين في المسيرات، وتوسيع نفوذ الحكام الاداريين في الاعتقالات والتوقيف والاقامة الجبرية، وتعطيل رزمة قوانين الاصلاح السياسي التي تأبى ان ترى النور منذ اكثر من عام وعلى رأسها قوانين الانتخاب والاحزاب والبلديات واللامركزية، وضعف المشاركة في صنع القرار، وتقزيم مجلس النواب ليصبح مجلسا آذنا بدلا من ان يكون مجلسا آمرا، وتحويل المجالس البلدية الى موظفين يتلقون الاوامر من وزراء البلديات، وتقليم أظفار الصحافة ووسائل الاعلام تحت ذرائع مختلفة، تارة هي الحرب على الارهاب، وتارة اخرى هي استعادة هيبة الدولة، وإبقاء الاحزاب في غرفة الانعاش، وهو ما أدى الى تراجع ثقة الشعب بكل المؤسسات المنتخبة والمعينة على حد سواء.

اجتماعيا، هناك احتقانات على كل المستويات، ومشاعر غضب مكبوتة، وكراهية وعدم رضا، تتجلى في أحسن حالاتها على هيئة موجات من السخرية من السلطة ومن يمثلونها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وتنفجر في أسوأ حالاتها على هيئة عنف مجتمعي جماعي او عنف بين الافراد أو حتى عنف ذاتي لاسباب تبدو واهية في ظاهرها، ولكنها تختزل معضلات كبرى تراكمت جراء تفاعل العوامل الاقتصادية والسياسية معا وإفراز هذه القيم الاجتماعية السلبية الجديدة.

هذا المشهد معقد بما فيه الكفاية داخليا وخارجيا ليجعل الجميع يشعر وكأننا نحيا في مرحلة انتقالية وهو ما يفسر مشاعر الخوف من المجهول وانعدام الثقة في المستقبل ومحاولة البحث عن الادخار بدل الاستثمار ونقل الاموال والاعمال الى الخارج ، بل والبحث عن الاغتراب الى مجتمعات اجنبية يدركها المواطنون باعتبارها اكثر امنا وأكثر حفظا لحقوق الانسان وأبعد عن هذه المتغيرات التي تعصف بنا، خاصة في ظل تراجع فرص السلام والامن شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، وتراجع فرص النمو محليا.
كيف يمكن مواجهة كل هذه التحديات؟

من المؤسف أن مطبخ القرار لدينا ومنذ اكثر من عامين من الزمن قد لجأ الى مقاربة الهيمنة والكبت، في اعتقاد منه انه بهذا يضبط ردود الافعال في الشارع ويمنع الاحتجاجات، وبالتالي تمر القرارات دون معارضة وبالحد الأدنى من التذمر، ولكن هذه المقاربة أدت الى تراكم الغضب في الصدور، وتحول الصوت العالي الى همس في الدور، وان طالت هذه الحالة، فإن المصير الذي حل بأمم غيرنا يجب ان يكون عبرة لنا، فالمراهنة على استمرار الاردنيين في ضبط مشاعرهم حفاظا على الوطن والمكتسبات التي بناها الأجداد وحفاظا على الامن والسلم والاستقرار، ليست مسألة أكيدة، لأن الثورات تاريخيا لم تحركها الطبقات المثقفة، وانما قادها الفقراء والعاطلون عن العمل والمهمشون، وإن كانت كتابات بعض الفلاسفة والمتنورين قد ألهمت بعضها.

في مواقف الازمات تواجه الأمم الديموقراطية العريقة مشاكلها بالحرية ومزيد من الحرية، وترفع من كفاءة الحكومات وتوسع تمثيلها الشعبي، وتحمي حرية الاعلام ، وتعلي من سلطة المؤسسات المنتخبة، وتطبق مبادئ الحكم الرشيد.

الشعب الأردني بحاجة الى حكومات تصارحه بالحقائق وتقدم المعلومات في وقتها وتشرح السياسات وتوصل البرامج والخدمات الى الشعب، بالاخص في الاماكن الاكثر تهميشا، وتمهد للقرارات غير الشعبية عبر حملات منظمة لصناعة الوعي والإدراك تعيد بناء الاتجاهات والقيم.

الشعب الاردني بحاجة الى مجالس أمة تتماهى مع طموحاته ورغباته وتدافع عن مصالحه وحقوقه وتتصدى للحكومات في ظل نظام يطبق الفصل بين السلطات وما زال يحتفظ بحكومات معينة امام مجالس نيابية منتخبة تعلوها مجالس اعيان معينة.

نحن بحاجة الى تطبيق القانون على الجميع بعدالة ومساواة ودونما انحياز او تمييز او محاباة، وبحاجة الى تعميق ثقافة حقوق الانسان وترسيخ مفاهيم الانتماء والمواطنة والحق والواجب، وإنهاء عهد المكرمات واستبداله بالحقوق الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والمدنية والسياسية، وبحاجة الى التحول من ثقافة العمل الفردي الى الجماعي، ومن الفزعة الى التخطيط، ومن الرؤية الذاتية الى المؤسسية، وبحاجة الى الاستثمار في احزاب جادة قادرة على الاتصال بالجماهير واقتراح الحلول لمشاكلنا المستعصية.

نحن بحاجة الى تعيين الاكفاء في مواقع صنع القرار، واعادة الصلاحيات التنفيذية والولاية السياسية للجهاز المدني في الدولة، واعادة بناء الهوية الوطنية الجامعة المتسامحة المحبة، بديلا لدعوات الانغلاق والعزلة والاقصاء التي طغت بقوة في السنوات الاخيرة جراء ضعف الحكومات وتفشي الفساد وطغيان المحسوبيات وتغذية النعرات العمودية منها والافقية.

نحن بحاجة الى ثورة في التعليم والتعليم العالي، تعيد بناء الانسان منذ الطفولة المبكرة وتعيد صناعة الشخصية المتوازنة المتكاملة وتسلح الافراد بمهارات تتلاءم مع سوق عالمي بالغ التعقيد عالي التنافسية، وتعلم الانتماء والاخلاق والمواطنة الصالحة وتعزز ثقافة العطاء بدلا من الأخذ، والايثار بدلا من الانانية، وتقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، واحترام القانون.

نحن بحاجة الى رعاية الحريات العامة والخاصة وتعميق ثقافة التسامح وقبول الاخر والانفتاح على الاراء المختلفة ودعم الصحافة والثقافة والاعلام وكل قنوات الابداع لتقوم هذه الوسائط جميعها بدورها التنويري ولتكون عين المواطنين ولسانهم وعقلهم في مواجهة اي استبداد لأي سلطة.

نحن بحاجة الى اعادة تكوين المرجعيات والمثل العليا والقدوة الصالحة في كل الميادين وعلى كل المستويات، وبحاجة الى سياسة عليا مكتوبة للدولة وخطط استراتيجية للوزارات والهيئات مستمدة من تلك السياسة العليا، بحيث يعمل الجميع كفريق منسجم بغض النظر عن مواقعهم واتجاهاتهم وافكارهم.

نحن بحاجة الى تعزيز العمل الحزبي وتسهيل وصول الاحزاب البرامجية التي تتمتع بقواعد شعبية الى البرلمان واستبدال نواب الدوائر والخدمات بنواب الوطن والرقابة والتشريع، نواب سياسيين قادرين على الفعل السياسي يتمتعون بمصداقية شعبية ويعملون بانسجام ضمن منظومة الحريات والدستور والعدالة.

نحن بحاجة الى تعظيم استقلالنا الاقتصادي والسياسي، وتنويع خليط الطاقة ومصادر الانتاج والدخل القومي الاجمالي، لنكون قادرين على المناورة في ظل الازمات ، والاهم نحن بحاجة الى وقف الاقتراض، وتكييف موازنتنا لتتلاءم مع ايراداتنا الذاتية، وتحقيق الاعتماد الذاتي في النفقات الجارية على الاقل، وتوجيه المنح باتجاه الانفاق الرأسمالي، وضبط النفقات ووقف الهدر، والحد من سفرات المسؤولين، وترشيق الجهاز الحكومي تدريجيا، وتفعيل ثقافة المساءلة، ودعم القطاع الخاص، وتحسين الخدمات الصحية والتعليمية والتأمينات، وصولا الى مجتمع معتمد على الذات، متحرر من الفقر والعوز والبطالة، مجتمع واثق متعاون متحاب، مثله مثل الجسد الواحد اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
هل هذا ممكن؟

بالطبع، المهم، متى وكيف نبدأ؟ نافذة الفرصة ما زالت مشرعة الدرفات، وليس هناك اي مبرر ليفوتنا القطار.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات