إشكالية الهوية في الدولة القطرية


أصبح موضوع الهوية موضع اهتمام العديدين من السياسيين والمفكرين، بعد نشوء الأنظمة القطرية التي سعت إلى تفكيك الهوية القومية وتغييبها ، وفرض هويات قطرية وطائفية.

ويرى البعض أن وجود هوية عربية إسلامية واحدة للأمة العربية من محيطها إلى خليجها، غير صحيح، ويقولون بوجود بديل لها هي الهوية القطرية: الأردنية، الفلسطينية ، والسورية والعراقية......الخ، فتصبح هذه الهوية مرادفة للدولة القطرية.

إن الهوية العربية الاسلامية تتسع لكل الخصوصيات القطرية ، وظلت القلعة المنيعة التي وقفت في وجه كل المحاولات الرامية لجعل الهوية القطرية مهيمنة أو إنجاز لتغيير ثقافة المجتمع. والهوية العربية الاسلامية واحدة لا تقبل التجزئة أو الانقسام. وهي هوية قديمة تشكلت ملامحها منذ زمن بعيد.

واجهت الهوية العربية الاسلامية الاستعمار الغربي مدة طويلة وفي ظل هذه المواجهة ، اصطدمت بثقافة المستعمر، فتبلور وعي الهوية، وأضحى المحّرك الأول للتصدي للاستعمار وثقافته الغازية.
فهل إن تأخر الهوية لوجودها يعني إنكار هذا الوجود؟. وهل لطبيعة العلاقة بين الهوية الشاملة العربية الاسلامية والخصوصية القطرية علاقة تكامل أم تنافر؟ أم هي علاقة مختلفة عن ذلك تماماً؟.
إن الهوية هي آلية دفاعية متينة تحمي أصحابها من غزو الآخرين، ومن هيمنة العولمة على الشعوب التي تزيد من التحديات على الشعوب، في حين هي برأي الآخرين عقبة تحول دون اللحاق بركب الحضارة ودخول العالمية.

فمنذ أن عرف العرب الغرب المستعمر الذي فرض عليهم نمطه في الحداثة ، أصيبوا بصدمة فرضت بقوة سؤال الهوية في مواجهة الآخر الغربي، ولم يكن أمامهم إلا التأكيد على الهوية العربية الاسلامية، ولا سيما في مضامنها القومية والدينية الأكثر رفضاً للغرب وثقافته جملةً وتفصيلاً. فلم يستطع العرب في حقبة النضال الوطني ضد الاستعمار الغربي إلا التمسك بمقومات الشخصية الوطنية ، والحرص على تقاليدها. فأصبح التأكيد على الهوية العربية الاسلامية أرضية مشتركة بين معظم القوى السياسية والاجتماعية، ميّز مرحلة الكفاح ضد الاستعمار.

ولكن مرحلة الاستقلال شهدت خلافاً حول الهوية ذات المضامين العروبية والاسلامية التي حاربت الاستعمار، واستلهمت مخزونها في الكفاح الوطني ، غيّرت لبوسها، واتخذت مضموناً يجسد التبعية السياسية والاقتصادية والثقافية لدولة الاستقلال من جهة وينسجم مع طبيعتها القطرية من جهة أخرى.
ولقد بدا في سنوات الاستقلال الأولى أن الأيديولوجيا الوطنية قد نجحت إلى حد ما ، في تهميش الهوية العربية الاسلامية، وبناء هوية عديمة الصلة بالعمق الحضاري على أساس وطني قطري. إلا أن تفجر الأزمات السياسية والاقتصادية لم يلبث أن كشف ضعف الهوية القطرية، وإن ما نشهده اليوم من عودة قوية إلى التأكيد على ثوابت الهوية، يبدو رداً طبيعياً على تحديات داخلية، وخارجية الأمركة الزاحفة، التي تلتقي موضوعياً مع الأنظمة القطرية التابعة في تهديد الهوية العربية ومحاولة تغييبها.

ولعل السائل بعد هذا يسأل: لماذا الحديث عن الهوية الآن؟ "الهوية هو مصطلح يُستخدم لوصف مفهوم الشخص وتعبيره عن فرديته وعلاقته مع الجماعات (كالهوية الوطنية أو الهوية الثقافية)". والهوية هي مجمل السمات التي تميز شخصاً عن غيره أو مجموعة عن غيرها. والعناصر التي يمكنها بلورة هوية جمعية كثيرة أهمها: اشتراك الشعب في الأرض واللغة والتاريخ والحضارة والثقافة وغيرها.

بدأت الهوية العربية في التشكل دستورياً منذ كتابة صحيفة النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى يثرب(المدينة المنورة)وانطلقت من مبدأ التغيير مع الابقاء على الثوابت، لذلك شاركت الهوية العربية في منظومة الانتاج الحضاري، وبناء التراث العالمي ، وبقيت اللغة العربية محافظة على ثباتها الايجابي، باعتبارها مكوّناً أساسياً للهوية العربية.

والهوية القومية " هوية الأمة " تتعلق بالأمة ، والهوية الوطنية تتعلق بالدولة، ومن خلالها تعبر عن نفسها. ويمكن القول إنه إذا أقامت الأمة العربية دولتها الواحدة، تحققت لها هويتها التي يمكن اعتبارها لقاءاً بين الأمة والدولة كما إن هويتها القومية تؤكد بأنها أمة متميزة عن غيرها من الأمم. أما إذا كانت الأمة منقسمة إلى دول متعددة ، كالأمة العربية، فإن هويتها تبقى عرضة للضعف والتآكل ، بسبب ما يخترقها يومياً من عوامل التفتت والهدم، متمثلة في الدعاوى القطرية والعشائرية والطائفية وغيرها. ومن المؤكد أن قيام وحدة الأمة العربية سيسيغ على هويتها عمقاً ومتانة وشرعية.

وفي حال الأمة متعددة الدول، كالأمة العربية، تبرز أمامنا الهوية القومية، رغم ضعفها في أقطار ، وغيابها في أقطار أخرى. كما تبرز الهوية الوطنية الخاصة بكل دولة ، كالهوية الأردنية والهوية الفلسطينية أو الهوية المصرية، والهوية التونسية وغيرها . لكن علاقة الهوية الوطنية بالهوية القومية الأم ليست علاقة انفصال ونفي وصراع متبادل، بل علاقة تفاعل وتكامل.

إن التناقض والتنافر قائم بين الدولة القطرية والدولة القومية ، أما الدولة الوطنية ، فيمكن اعتبارها خطوة على طريق بناء الدولة القومية.

وتتحول الدولة القطرية إلى دولة وطنية من خلال تطور المجتمعات وتعميق دولة القانون ودولة الحق. فنمو المجتمع المدني من شأنه إعادة إنتاج الهوية الوطنية ، في ضوء معطيات التقدم وحقائق العصر الحديث ، حيث ينمو العنصر القومي الوحدوي بنمو العناصر الديمقراطية فتغدو الوحدة العربية حاجة موضوعية تمليها الحاجة إلى التقدم ، ومجابهة التحديات الخارجية.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات