المثاليه والواقعيه


جراسا -

بالنسبة لصراع المحاور الدائر اليوم في المنطقة، وحالة الأنظمة والشعوب بعد الخريف العربي الدامي، إكتشفنا فجأة، أن العالم العربي يعيش أزمة هوية حقيقية كان مسكوت عنها لزمن طويل، بدليل، أن الأزمات الكبرى، بما فيها إرهاب “داعش” وإرهاب “إسرائيل” لم تستطع أن توحدنا على قلب رجل واحد، وكان العالم يحسبنا جميعا فتبين أن قلوبنا شتى..

لم يكن أحد من الساسة أو المثقفين، يملك أجوبة شافية وحاسمة عن موضوع الهوية، أو كان له تصور لمشروع كامل مكتمل يحقق وحدة الأمة على أسس عقلانية وعملية، تبدأ من ثوابت الفكر ومناهج التعليم والثقافة، لتنتهي بالسياسة، مرورا بالأمن والإقتصاد.. كان الجميع يتهم الجميع من الجار إلى الإستعمار بالمسؤولية عن الفشل في تحقيق شعارات التحرير بعد قيام الدولة الوطنية. وكان موضوع الهوية يلامس من قبل مثقفي المعارضة بحذر شديد، لما يمكن أن يكون له من تداعيات على أنظمة الحكم الديكتاتورية والعشائرية القروسطية القائمة.

وفي الوقت الذي كان التجاذب على أشده في موضوع الهوية بعد ثورات الخريف العربي، حيث انعكس نقاشا حادا حول طبيعة الدولة بين الدينية والعسكرية والمدنية، وقضية العروبة والقوميات، والحقوق والحريات وما إلى ذلك.. كانت الأنظمة قد صنعت لها إسلاما رسميا على مقاسها، غير قابل للإجتهاد أو النقد والتجديد، لتقطع الطريق أمام أحلام الثورات الخضراء (الإسلاموية) والحمراء (العلمانية) على حد سواء.

وحين جائت العولمة وثورة الإتصالات والمعلومات بدأ المواطن العربي يدرك حقيقة ثقافة الزبالة التي تؤثت عقله البدوي الذي لا يفكر ولا ينتج فكرا ولا يساهم في حضارة بالمفهوم الإنساني الكوني.. فكانت الصدمة، وبداية تفكك القناعات وسقوط الشعارات، وتبدد مخزون الوعي الجماعي المشترك، فأضاع العرب الطريق وأخطؤوا المسار والمسير، لأنهم لم يستفيدو من درس التاريخ، ولم يعرفوا ما سؤال الفلسفة، ولم يدركوا أن من يخالف أمر “إقرأ” لا يستطيع أن يحجز له مكانة في مسيرة الحضارة الإنسانية ليعيش قويا عزيزا كريما.

هذه العوامل السياسية والسيوسوثقافية بالإضافة لدروس التاريخ ونظريات الإجتماع السياسي، ساعدت الغرب بعد تشريحها ودراستها في مطبخ الفكر، وبشكل لا يصدق، في تدمير الوطن العربي من مدخل الإديولوجيا الدينية. ولا مجال هنا لإعادة التذكير في كل مرة بأهداف الغرب الصهيو – أطلسي من ذلك، لقد أصبحت معروفة للجميع وتختصر في معادلة: (إسرائيل، والنفط)، وإدارة مال النفط بما لا يخدم مصالح الشعوب ومشاريع النهضة والتنمية المستدامة.

نحن هنا أمام ما أصبح يعرف بـ”أزمة هوية” ناجمة عن سوء تقدير وسوء إدارة، والتي بسببها سقطت أختام أصولية وعقائد تقدمية وقناعات هوياتية قديمة، وضاعت البوصلة فأصبح العدو هو إيران وليست “إسرائيل”، وتبدلت الخيارات والتحالفات بناء على ما أصبح يعرف اليوم في العلوم السياسية بـ”نظرية الواقعية السياسية”، والتي حلت محل “نظرية المثالية السياسية” التي سادت بعد الحرب العالمية الأولى إبان إقامة “عصبة الأمم”.

ونحن هنا أيضا، أمام خديعة جديدة يتبناها علم السياسة رسميا، ضدا في قاعدة العلوم الصحيحة التي تقول أن النظرية يجب أن تعكس ما أكدت صحته التجارب، في حين أن “الواقعية السياسية” كما هي سائدة كمفاهيم وأفكار لم تثبت نجاعتها على محك الممارسة، وتسببت بكوارث وحروب ومظالم وفساد في البر والبحر والجو ما بعده فساد، بسبب تغليب منطق القوة على منطق الحق، وإجبار الضعيف على القبول بالظلم والتبعية بمنطق “الواقعية السياسية” أو “البراغماتية” كما يحلو للبعض تسميتها في نقل حرفي للمصطلح اللاتيني إلى العربية.

ومع ذلك، يصر فقهاء السياسة في الغرب على تحويل مصطلح “الواقعية السياسية” من مفهوم ومقولة فكرية قابلة للنقاش والضبط بضوابط القانون والأخلاق، إلى نظرية علمية مفروضة من فوق ومسلم بها من تحت، ما يجعل تفسير الأحداث السياسية بمنطق “الواقعية السياسية” من مدخل الموضوعية، أمرا مقبولا “علميا” (؟؟؟)..

ثم يأتي بعد ذلك الخطاب الإعلامي ليتبنى هذه النظرية التي تحولت فجأة إلى عقيدة، فيقوم بمهمة ترجمة السياسات الرسمية إلى رسائل توجيهية مركزة بالصوت والصورة في عملية لكي الوعي الجماهيري تثير الغثيان، وبذلك تنهار الثوابت والمبادىء والقيم والأخلاق التي نؤمن بها وتشكل العناصر الأساس من تركيبة هويتنا العربية والإسلامية التي كنا نفتخر بها في طفولتنا، واليوم أصبحنا نخجل من أنفسنا عندما نسمع ونرى ما يقوله العالم عنا..

فكيف لا يحدث الإنفجار؟.. وكيف يغير الله ما بنا ونحن نرفض أن نغير ما بأنفسنا، ونتشبث بثقافة القبور، نجتر ما قاله ميت عن ميت خوفا من التغيير، وضدا في عملية “التطور” التي تعتبر الثابت الأساس في سنن الله في الخلق والكون؟.. وفي تقديري، مرد ذلك يعود إلى أننا لا نستطيع التمييز بين الدين الذي هو حقيقة إلهية مطلقة وبين الفهم الديني البشري الذي سبب للأمة كل المآسي والكوارث والأحزان التي عاشتها ولا تزال، وهي غير مدركة لجوهر المشكلة، المتمثلة في إستغلال الدين في السياسة من قبل حكام يعشقون السلطة ويعبدون المال.

وخلاصة القول، أن ما بين النظرية السياسية والواقع فجوة كبيرة، والعاملين اليوم في مجال التحليل بأدوات الفهم والتفسير، لا شغل لهم سوى اللهاث وراء نظريات تواكب الواقع على الأرض، ومهما كانت النظريات “علمية” و “موضوعية” فهي لا تتطابق أبدا مع الواقع، إذ لا توجد نظرية سياسية قادرة لوحدها على تفسير وفهم ما يجري في السياسة الدولية من غير متابعة دقيقة لما يحاك في الكواليس والأقبية المظلمة من مؤامرات، وما يجري ويدور في الميادين من حروب وصراعات، لأن الواقع المجرد على الأرض هو المصداق الحقيقي لمعرفة ما لا يقال في السياسة، هذا علما، أن الفهم والتفسير هما من أهم أهداف النظرية السياسية بالنهاية.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات