الدروس المستفادة من العشرة ذي الحجة


جراسا -

الدروس المستفادة من العشرة ذي الحجة
بقلم:د.محمد حرب اللصاصمة
أولا: مقدمة:‏
إن من نعم الله تعالى علينا أن مواسم الخير يتبع بعضها بعضًا، فبعد أن انقضى موسم رمضان جاء موسم ‏الحج وموسم العشر من ذي الحجة. فينبغي أن نتعرف على نعم الله علينا بهذه المواسم التي هي للمؤمنين مغنَم ‏لاكتساب الخَيرات ورفعِ الدّرجات، وهي لهم فُرصة لتحصيل الحسناتِ والحَطّ من السيِّئات، تتكرر علينا كل ‏عام؛ ليتكرر بها علينا فضل الله، ونجدد النشاط على صالح الأعمال.‏

ففضائل الله على هذه الأمة كثيرة وله المنة والفضل، ومن ذلك شُكْرُ العمل القليل وإحلال البركة فيه، ‏فعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ ‏ ‏ قَالَ: ((مَثَلُكُمْ وَمَثَلُ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أُجَرَاءَ، ‏فَقَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ غُدْوَةَ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتْ الْيَهُودُ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ نِصْفِ ‏النَّهَارِ إِلَى صَلاةِ الْعَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتْ النَّصَارَى، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ الْعَصْرِ إِلَى أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ ‏عَلَى قِيرَاطَيْنِ؟ فَأَنْتُمْ هُمْ، فَغَضِبَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَقَالُوا: مَا لَنَا أَكْثَر عَمَلاً وَأَقَلّ عَطَاءً؟ قَالَ: هَلْ نَقَصْتُكُمْ مِنْ ‏حَقِّكُمْ؟ قَالُوا: لا، قَالَ: فَذَلِكَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ)) رواه البخاري.‏

ثانيا: فضائل العشر من ذي الحجة:‏
من فضائل العشر من ذي الحجة:‏

‏1- أنّ الله تعالى أقسم بها بقوله: ‏ وَلَيَالٍ عَشْرٍ ‏ [الفجر: 2]، قال الإمام الطبري: "والصواب من ‏القول في ذلك عندنا أنها عشر الأضحى؛ لإجماع الحجة من أهل التأويل عليه"‏‎[1]‎، وقال ابن كثير رحمه الله: ‏‏"والليالي العشر المراد بها عشر ذي الحجة كما قاله ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وغير واحد من السلف ‏والخلف"‏‎[2]‎، وقال الشوكاني رحمه الله: "هي عشر ذي الحجة في قول جمهور المفسرين"‏‎[3]‎‏.‏
وهذا دليل على فضلها وعظيم أمرها.‏
‏2- وهي الأيام المعلومات التي أُمرنا فيها بذكر الله تعالى، قال تعالى: ‏ وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ ‏رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ‏ ‏ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ ‏عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ‏ [الحج: 27، 28].‏

قال ابن عباس عن الأيام المعلومات: (أيام العشر) أخرجه البخاري معلقًا بصيغة الجزم.‏

‏3- وهي العشر المذكورة في قوله تعالى: ‏ وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ ‏أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ‏ [الأعراف: 142]، والثلاثون شهر ذي القعدة.‏

‏4- وهي أيام يتضاعف فيها ثواب العمل؛ لما ثبت عند البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ ‏ ‏ أَنَّهُ قَالَ: ((مَا ‏الْعَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ))، قَالُوا: وَلا الْجِهَادُ؟ قَالَ: ((وَلا الْجِهَادُ، إِلاّ رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ ‏وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ))، وللترمذي: ((مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ الْعَشْرِ))، ‏فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ‏ ‏: ((وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلاّ رَجُلٌ ‏خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ)).‏

قال ابن رجب: "وهذا يدل على أن العمل المفضول في الوقت الفاضل يلتحق بالعمل الفاضل في غيره، ‏ويزيد عليه لمضاعفة ثوابه وأجره"‏‎[4]‎‏.‏

ومن أراد أن يستشعر فضل هذه الأيام ويتصور ذلك فليتدبر هذا الحديث: عن أبي هُرَيْرَةَ ‏ ‏ قَالَ: جَاءَ ‏رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ‏ ‏ فَقَالَ: دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يَعْدِلُ الْجِهَادَ؟ قَالَ: ((لا أَجِدُهُ))، قَالَ: ((هَلْ تَسْتَطِيعُ إِذَا خَرَجَ ‏الْمُجَاهِدُ أَنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَكَ فَتَقُومَ وَلا تَفْتُرَ وَتَصُومَ وَلا تُفْطِرَ؟)) قَالَ: وَمَنْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ؟! رواه البخاري ‏ومسلم. ومع ما للجهاد من هذه المكانة يبين النبي ‏ ‏ أن الطاعة في العشر التي هي دون الجهاد في غير العشر ‏أفضل منه، أما الجهاد فيها فلا شيء يعدله.‏

‏5- وهي أفضل أيام الدنيا لقول النبي ‏ ‏: ((أفضل أيام الدنيا العشر)) رواه البزار وأبو يعلى وصححه ‏الألباني في صحيح الترغيب (50).‏
‏6- وفيها يوم عرفة.‏

‏7- وفيها أعظم يوم عند الله وهو يوم العيد، وهو يوم الحج الأكبر، وسُمي بذا لأنّ معظم أعمال الحج ‏تقع فيه؛ من الوقوف عند المشعر الحرام، ورمي جمرة العقبة، والطواف، والسعي، والحلق أو التقصير، ونحر ‏الهدي للمتمتع والقارن. قال ‏ ‏: ((إِنَّ أَعْظَمَ الأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمُ النَّحْرِ ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ‎[5]‎‏)) رواه ‏أبو داود وهو في صحيح السنن (2/148).‏

قال ابن القيم رحمه الله: "فالزمان المتضمن لمثل هذه الأعمال أهل أن يقسم الرب عز وجل به"‏‎[6]‎، وقال ‏الحافظ ابن حجر: "والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي: ‏الصلاة، والصيام، والصدقة، والحج، ولا يأتي ذلك في غيره"‏‎[7]‎‏.‏

ثالثا: إشكالان وجوابهما:‏
الإشكال الأول: قال ‏ ‏: ((إِنَّ أَعْظَمَ الأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمُ النَّحْرِ ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ))، ألا يتعارض ‏مع الحديث الآخر: ((خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة))؟!‏
الجواب: لا؛ فإنّ يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع، ويوم النحر أفضل أيام العام.‏
الإشكال الثاني: أليست ليالي العشر من رمضان أفضل؛ لأن فيها ليلة القدر؟!‏
سئل شيخ الإسلام عن عشر ذي الحجة والعشر الأواخر من رمضان: أيهما أفضل؟ فأجاب: "أيام عشر ‏ذي الحجة أفضل من أيام العشر من رمضان، والليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل من ليالي عشر ذي ‏الحجة"‏‎[8]‎‏.‏
رابعا: وظائف المسلم في العشر:‏
ندب الحديث إلى العمل الصالح مطلقًا في هذه الأيام، وقد كان سعيد بن جبير رحمه الله إذا دخلت العشر ‏اجتهد اجتهادًا حتى ما يكاد يقدر عليه. أخرجه الدارمي في سننه والبيهقي في الشعب.‏

ومن الوظائف التي ينبغي العناية بها:‏
‏1- الحج، قال النبي ‏ ‏: ((مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ)) رواه البخاري ‏ومسلم.‏

‏2/ العمرة، فقد شرع النبي ‏ ‏ العمرة في أشهر الحج مخالفًا بذلك المشركين القائلين: إذا عفا الوبر وبرأ ‏الدبر ودخل صفر فقد حلت العمرة لمن اعتمر، فأعمر عائشة في أشهر الحج، وندب أصحابه إلى التمتع الذي ‏يأتي فيه الإنسان بعمرة في أشهر الحج، وقرن في حجه بينه وبين العمرة، واعتمر أربع مرات كلهنّ في أشهر ‏الحج.‏

‏3- الاعتناء بالفرائض؛ إذ لا أحبّ إلى الله منها، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ‏ ‏: ((إِنَّ اللَّهَ قَالَ: ‏مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ ‏عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ ‏الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ)) رواه البخاري.‏

‏4- ومنها كثرة النوافل للحديث السابق، من تلاوة القرآن، والتنفُّل بالصلاة، وإدامة الذكر، والصلة، ‏والصدقة، وإعانة المحتاج، وهذا باب لا يُحصى أفراده ولله الحمد.‏
‏5- كثرة الذكر؛ لقول الله تعالى: ‏ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ ‏.‏
قال ابن رجب: "وأما استحباب الإكثار من الذكر فيها ـ في أيام العشر ـ فقد دلَّ عليه قول الله عز ‏وجل: ‏ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ ، فإن الأيام المعلومات هي أيام العشر عند جمهور العلماء"‏‎[9]‎‏.‏

ومنه التكبير والتهليل والتحميد؛ لقول النبي ‏ ‏: ((مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ وَلا أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ الْعَمَلِ ‏فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ الْعَشْرِ، فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنْ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ)) رواه أحمد (7/224) وصححه ‏الشيخ أحمد محمد شاكر.‏
قال البخاري رحمه الله: "كان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران، ويكبر الناسُ ‏بتكبيرهما"‏‎[10]‎‏.‏

وعن يزيد بن أبي زياد قال: رأيت سعيد بن جبير وعبد الرحمن بن أبي ليلى ومجاهدًا ـ أو اثنين من هؤلاء ‏الثلاثة ـ ومن رأينا من فقهاء الناس يقولون في أيام العشر: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله ‏أكبر، ولله الحمد" أخرجه الفريابي في أحكام العيدين (ص 119). وعن ميمون بن مهران قال: أدركت الناس ‏وإنهم ليكبرون في العشر حتى كنت أشبهه بالأمواج من كثرتها، ويقول: إن الناس قد نقصوا في تركهم ‏التكبير. أخرجه أبو بكر المروزي في العيدين، كما في فتح الباري لابن رجب (9/9).‏

وينبغي الجهرُ به؛ إحياءً للسنة وتذكيرًا للغافل.‏

والتكبير فيها قسمان: مطلق ويكون في العشر كلها، ومقيد بدبر الصلاة المكتوبة والنافلة، وأصحُّ ما ورد ‏في وصفِ وقت التكبير المقيّد ما ورَد مِن قولِ عليّ وابن عبّاس رضي الله عنهما أنّه مِن صُبح يومِ عرفة إلى ‏العصرِ من آخر أيّام التشريق‎[11]‎‏. وأمّا للحاجّ فيبدأ التكبيرُ المقيّد عقِب صلاةِ الظهر من يوم النحر.‏

وأصحُّ ما ورد في صيغِ التكبير ما أخرجَه عبد الرزاق بسندٍ صحيح عن سلمان رضي الله عنه قال: (كبّروا ‏الله: الله أكبر الله أكبر الله أكبر كبيرًا) صححه ابن حجر في الفتح (2/462)، وصحّ عن عمر وابن مسعود ‏رضي الله عنهما صيغة: (الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد)‏‎[12]‎‏.‏

‏6- صيام التسع، فمن غُلب أخذ منها ما يُطيقه، فعن هُنَيْدَةَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ امْرَأَتِهِ قَالَتْ: حَدَّثَتْنِي بَعْضُ ‏نِسَاءِ النَّبِيِّ ‏ ‏ أَنَّ النَّبِيَّ ‏ ‏ كَانَ يَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَتِسْعًا مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَثَلاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ الشَّهْرِ. رواه أحمد ‏والنسائي وهو في صحيح السنن (2372).‏
ولا يُشوِّشُ على هذا ما رواه مسلم عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ‏ ‏ صَائِمًا ‏فِي الْعَشْرِ قَطُّ، قال ابنُ القيّم رحمه الله بعد أن أوردَ هذه المسألةَ:

"والمثبِت مقدَّمٌ على النّافي إن صحّ"‏‎[13]‎، ‏ويقول النووي مزيلاً هذا الإشكال: "قول عائشة: ما رأيت رسول الله ‏ ‏ صائمًا في العشر قط، وفي رواية: لم ‏يصم العشر، قال العلماء: هذا الحديث مما يوهم كراهة صوم العشر، والمراد بالعشر هنا الأيام التسعة من أول ‏ذي الحجة، قالوا: وهذا مما يتأول، فليس في صوم هذه التسعة كراهة، بل هي مستحبة استحبابًا شديدًا، لا ‏سيما التاسع منها وهو يوم عرفة، وقد سبقت الأحاديث في فضله... فيتأوّل قولها: (لم يصم العشر) أنه لم يصمه ‏لعارض مرض أو سفر أو غيرهما، أو أنها لم تره صائمًا فيه، ولا يلزم من ذلك عدم صيامه في نفس الأمر. ويدل ‏على هذا التأويل حديث هُنَيْدَة بنِ خالد عن امرأته عن بعض أزواج النبي ‏ ‏ قالت: كان رسول الله ‏ ‏ يصوم ‏تسع ذي الحجة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كلِّ شهر"‏‎[14]‎‏.‏
وربما صامها النبي ‏ ‏ ثم ترك صيامها خشية أن تفرض كما ترك الاجتماع في صلاة الليل في رمضان لذات ‏العلة، فأخبرت كل واحدة بما رأته من حاله ‏ ‏.‏
وإذا غُلب الإنسان فلا أقل من صوم يوم عرفة لغير الحاج، لقول نبينا ‏ ‏:((صيام يوم عرفة أحتسب على ‏الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده)) رواه مسلم.‏
‏7- قيام ليلها، فقد استحبه الشافعي وغيره، وقال سعيد بن جبير: "لا تطفئوا سرجكم ليالي ‏العشر"‏‎[15]‎‏.‏
‏8- ومن آكد الأمور في هذه العشر البعد الشديد عن طريق المعصية وسبيل السيئة، فقد قال بعض أهل ‏العلم بمضاعفة السيئة في الأشهر الحرم، وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة وشهر الله المحرم، قال الله تعالى: ‏ ‎إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ ‏الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ‏ [التوبة :36].‏
‏9- دعاء يوم عرفة، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي ‏ ‏ قال:((خير الدعاء دعاء يوم عرفة، ‏وخير ما قلت أنا والنبيُّون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء ‏قدير)) رواه الترمذي وقوَّاه الألباني في الصحيحة (1503).‏
قال ابن عبد البر: "وفيه من الفقه أن دعاء يوم عرفة أفضل من غيره، وفي ذلك دليل على فضل يوم عرفة ‏على غيره... وفي الحديث أيضًا دليل على أن دعاء يوم عرفة مجاب كله في الأغلب"‏‎[16]‎‏.‏
‏10- الأضحية، وهي من خير القربات في يوم العيد، واختلف العلماء في حكمها، والصحيح أنها سنة ‏مؤكدة للقادر، والله أعلم.‏
‏11- صلاة العيد، وهي واجبة في الراجح من قولي العلماء.‏
خامسا: بماذا نستقبلها؟
نستقبل العشر بأمرين:‏

الأول: ذكر علماؤنا رحمهم الله أن مواسم الخير تُستقبل بالتوبة والإنابة إلى الله؛ ولعلَّ ذلك لأن يكون ‏أدعى لتوفيقِ الله للعبد فيها.‏

الثاني: العزم الأكيد على استغلالها فيما يحبه الله ويرضاه، ومن صدق اللهَ صدقه اللهُ تعالى.‏

سادسا: ما يحرم فعله فيها لمن أرد الأضحية:‏
عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ ‏ ‏ قَالَ: ((إِذَا دَخَلَتْ الْعَشْرُ وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ فَلا يَمَسَّ مِنْ ‏شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ شَيْئًا)) رواه مسلم، وله: ((فلا يأخذنَّ شعرًا ولا يقلمنَّ ظفرًا)).‏

وتحته مسائل:‏

الأولى: الحديث يدل على تحريم أخذ شيء من الأشعار والأبشار والأظفار؛ لأنّ الأصل أن النهي للتحريم.‏
الثانية: في الحكمة من ذلك، قال النووي رحمه الله: " قال أصحابنا: والحكمة في النهي أن يبقى كامل ‏الأجزاء ليعتق من النار، وقيل: التشبه بالمحرم، قال أصحابنا: هذا غلط؛ لأنه لا يعتزل النساء ولا يترك الطيب ‏واللباس وغير ذلك مما يتركه المحرم"‏‎[17]‎‏.‏
الثالثة: من نوى الأضحية قبل العيد بأيام أمسك عن الحلق وإن لم يكن أمسك من قبل.‏
الرابعة: لا فدية على من تعمد أخذ شيء من ذلك، وتلزمه التوبة للوقوع في النهي.‏
الخامسة: من احتاج إلى الأخذ أخذ، كمن كُسر بعض ظفره وتأذى بباقيه، أو تدلى جلده.‏
السادسة: المُضحَّى عنهم لا يتناولهم هذا الحديث، فلا بأس أن تأخذ الزوجة والأولاد من أظفارهم.‏

السابعة: إذا وكّل شخص شخصًا ليضحي عنه فالمخاطب بالحديث الموكِّل لا الموكَّل، فالوكالة لا أثر لها في ‏تحريم أخذ المضحي من شعره وبشره.‏

سابعا: بعض الدروس التربوية المستفادة من أحاديث فضل الأيام العشر‎[18]‎‏:‏
‏1- التنبيه النبوي التربوي إلى أن العمل الصالح في هذه الأيام العشرة من شهر ذي الحجة أفضل وأحب ‏إلى الله تعالى منه في غيرها، وفي ذلك تربيةٌ للنفس الإنسانية المُسلمة على الاهتمام بهذه المناسبة السنويّة التي لا ‏تحصل في العام إلا مرةً واحدةً، وضرورة اغتنامها في عمل الطاعات القولية والفعلية، لما فيها من فرص التقرب ‏إلى الله تعالى، وتزويد النفس البشرية بالغذاء الروحي الذي يرفع من الجوانب المعنوية عند الإنسان، فتُعينه بذلك ‏على مواجهة الحياة.‏

‏2- التوجيه النبوي التربوي إلى أن في حياة الإنسان المسلم بعض المناسبات التي عليه أن يتفاعل معها ‏تفاعلاً إيجابيًا يمكن تحقيقه بتغيير نمط حياته وكسر روتينها المعتاد بما صلح من القول والعمل، ومن هذه ‏المناسبات السنوية هذه الأيام المُباركات التي تتنوع فيها أنماط العبادة لتشمل مختلف الجوانب والأبعاد الإنسانية.‏
‏3- استمرارية تواصل الإنسان المسلم طيلة حياته مع خالقه العظيم من خلال أنواع العبادة المختلفة ‏لتحقيق معناها الحق من خلال الطاعة الصادقة والامتثال الخالص. وفي هذا تأكيدٌ على أن حياة الإنسان المسلم ‏كلها طاعةٌ لله تعالى من المهد إلى اللحد، وفي هذا الشأن يقول أحد الباحثين: "فالعبادة بمعناها النفسي التربوي ‏في التربية الإسلامية فترة رجوعٍ سريعةٍ من حينٍ لآخر إلى المصدر الروحي؛ ليظل الفرد الإنساني على صلةٍ دائمةٍ ‏بخالقه، فهي خلوةٌ نفسيةٌ قصيرةٌ يتفقد فيها المرء نفسيته صفاءً وسلامةً".‏

‏4- شمولية العمل الصالح المتقرّب به إلى الله عز وجل لكل ما يُقصد به وجه الله تعالى وابتغاء مرضاته، ‏سواءً أكان ذلك قولاً أم فعلاً، وهو ما يُشير إليه قوله ‏ ‏:((العمل الصالح))؛ ففي التعريف بـ(ألـ) الجنسية ‏عموميةٌ وعدم تخصيص؛ وفي هذا تربيةٌ على الإكثار من الأعمال الصالحة، كما أن فيه بُعدًا تربويًا لا ينبغي ‏إغفاله، يتمثل في أن تعدد العبادات وتنوعها يُغذّي جميع جوانب النمو الرئيسة: الجسمية والروحية والعقلية، ‏وما يتبعها من جوانب أُخرى عند الإنسان المسلم.‏

‏5- حرص التربية الإسلامية على فتح باب التنافس في الطاعات حتى يُقبِل كل إنسان على ما يستطيعه ‏من عمل الخير كالعبادات المفروضة والطاعات المطلوبة من حجٍ وعمرةٍ وصلاةٍ وصيامٍ وصدقةٍ وذكرٍ ودعاءٍ... ‏إلخ. وفي ذلك توجيهٌ تربويّ لإطلاق استعدادات الفرد وطاقاته لبلوغ غاية ما يصبو إليه من الفوائد والمنافع ‏والغايات الأُخرويّة المُتمثّلة في الفوز بالجنة والنجاة من النار.‏

‏6- تكريم الإسلام وتعظيمه لأحد أركان الإسلام العظيمة وهو الحج كنسكٍ عظيمٍ ذي مضامين تربوية ‏عديدة تبرزُ في تجرد الفرد المسلم من أهوائه ودوافعه المادية، وتخلصه من المظاهر الدنيوية، وإشباعه للجانب ‏الروحي الذي يتطلب تهيئةً عامةً وإعدادًا خاصًا تنهض به الأعمال الصالحات التي أشاد بها المصطفى ‏ ‏ في ‏أحاديث مختلفة، لما فيها من حُسن التمهيد لاستقبال أعمال الحج، والدافع القوي لأدائها بشكلٍ يتلاءم ومنزلة ‏الحج التي لا شك أنها منزلةٌ ساميةٌ عظيمة القدر.‏

‏7- تربية الإنسان المسلم على أهمّية إحياء مختلف السُنن والشعائر الدينية المختلفة طيلة حياته؛ لا سيما ‏وأن باب العمل الصالح مفتوحٌ لا يُغلق منذ أن يولد الإنسان وحتى يموت، انطلاقًا من توجيهات النبوة التي ‏حثت على ذلك ودعت إليه.‏
وليس هذا فحسب؛ فهذه الأيام العظيمة زاخرةٌ بكثيرٍ من الدروس والمضامين التربوية التي علينا جميعًا أن ‏نُفيد منها في كل جزئيةٍ من جزئيات حياتنا، وأن نستلهمها في كل شأن من شؤونها.‏



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات