تعظيم نعمة الله


جاءت الشريعة المطهرة باحترام النعم ، وشكر المنن ، وتقدير الخير الذي يسخره سبحانه وتعالى للناس .والطعام من أعظم نعم الله تعالى على الإنسان ، جعل فيه حياته وقوته ، كما جعل فيه لذته ، ولذلك أمر بالحمد بعد تناوله ، والشكر على إحسانه به .يقول الله عز وجل : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ البقرة 172ولا شك أن من شكر نعمة الطعام احترامها وعدم إلقائها ، ورفعها عن مواضع الإهانة والقذارة ، وحفظها عن ما يفسدها ، وإن حسن الجوار لنعم الله من تعظيمها ، وتعظيمها من شكرها ، والرمي بها من الاستخفاف بها ، وذلك من الكفران ، والكَفور ممقوت مسلوب ، ولهذا قالوا : الشكر قيد للنعمة الموجودة ، وصيد للنعمة المفقودة . وقالوا : كفران النعم بوار ، فاستدع شاردها بالشكر ، واستدم هاربها بكرم الجوار . فارتباط النعم بشكرها ، وزوالها في كفرها ، فمن عظَّمَها فقد شكرها ، ومن استخف بها فقد حقرها وعرضها للزوال ، ولهذا قالوا : لا زوال للنعمة إذا شكرت ، ولا بقاء لها إذا كفرت .

قيل : أنه كان العارف المرجاني إذا جاءه القمح لم يترك أحداً من فقراء الزاوية ذلك اليوم يعمل عملا حتى يلتقطوا جميع ما سقط من الحب على الباب أو بالطريق . فينبغي للإنسان إذا وجد خبزاً أو غيره مما له حرمة ، مما يؤكل ، أن يرفعه من موضع المهنة إلى محل طاهر يصونه فيه ، وما أجمل ما يفعله العامة من الناس والبسطاء من تقبيل النعمة ورفعها فوق الرأس . وهذا الباب مجرَّب ، فمن عظَّم الله بتعظيم نعمه لطف به وأكرمه ، وإن وقع بالناس شدة جعل له فرجاً ومخرجاً . وقد جاءت النصوص تأمر برفع الطعام الساقط على الأرض مثلا ، فعَنْ جَابِرٍ بن عبد الله قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : إِنَّ الشَّيْطَانَ يَحْضُرُ أَحَدَكمْ عِنْدَ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ شَأْنِهِ ، حَتَّى يَحْضُرَهُ عِنْدَ طَعَامِهِ ، فَإِذَا سَقَطَتْ مِنْ أَحَدِكُمْ اللُّقْمَةُ فَلْيُمِطْ مَا كَانَ بِهَا مِنْ أَذًى ، ثُمَّ ليَأْكُلْهَا وَلَا يَدَعْهَا لِلشَّيْطَانِ ، فَإِذَا فَرَغَ فَلْيَلْعَقْ أَصَابِعَهُ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي فِي أَيِّ طَعَامِهِ تَكُونُ الْبَرَكَةُ وعَنْه انه كَانَ إِذَا أَكَلَ طَعَامًا لَعِقَ أَصَابِعَهُ الثَّلَاثَ ، قَالَ وَقَالَ : إِذَا سَقَطَتْ لُقْمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيُمِطْ عَنْهَا الْأَذَى وَلْيَأْكُلْهَا وَلَا يَدَعْهَا لِلشَّيْطَانِ ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَسْلُتَ الْقَصْعَةَ ، قَالَ : فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ فِي أَيِّ طَعَامِكُمْ الْبَرَكَةُ . ومعناه : أن الطعام الذي يحضره الإنسان فيه بركة ، ولا يُدرى أن تلك البركة فيما أكله ، أو فيما بقي على أصابعه ، أو في ما بقي في أسفل القصعة ، أو في اللقمة الساقطة ، فينبغي أن يحافظ على هذا كله لتحصل البركة ، وأصل البركة الزيادة وثبوت الخير والإمتاع به . وذكر الفقهاء حكماً عديدة لهذه الآداب وفوائد كثيرة ، منها :امتثال أمر النبي وسنته .والتواضع وعدم التكبر .

واحترام نعم الله تعالى وتعظيمها وشكرها وعدم الاستخفاف بها . وتحصيل البركة التي قد تكون في اللقمة الساقطة . وحرمان الشيطان من ذلك الطعام ، فإن وقعت على موضع نجس فلا بد من غسلها إن أمكن ، فإن تعذر أطعمها حيواناً ولا يتركها للشيطان ، والاقتصاد وعدم الإسراف .ويغفل كثير من الناس عن هذا الأدب أثناء تناول الطعام على السُّفَر ، فيظنون أنه أدب خاص بما إذا سقط الطعام على الأرض ، ولكنه أدب ينبغي الامتثال به حتى على السُّفَر ، فإذا سقطت اللقمة من الصحن على السُّفْرَة فعليه أن يرفعها .

وعنه صلى الله تعالى عليه وسلم : أنه قال : (أكرموا الخبز) قيل : يا رسول الله ، وما إكرامه ؟ قال : إذا وضع لا ينتظر به غيره ، إلى أن قال : ومن كرامته أن لا يوطأ ، ولا يقطع والمراد أن لا يقطع بالسكين ، وقد تكرر في الروايات النهي عن ذلك وهي دالة على كراهة ذلك . ويكره وضع الرغيف تحت القصعة ، وتحرم إهانة الخبز ودوسه بالأرجل بقصدها ، بل تحرم إهانة غيره مما أنعم الله به على الناس من المطعومات . ورد عن الإمام الحسن بن علي عليهما السلام أنه دخل المتوضأ فأصاب لقمة ، أو قال كسرة في مجرى الغائط والبول فأخذها فأماط عنها الأذى فغسلها غسلاً نعماً ، ثم دفعها إلى غلامه ، فقال : يا غلام ذكّرني بها إذا توضأت ، فلما توضأ ، قال للغلام : يا غلام ناولني اللقمة أو قال الكسرة ، فقال : يا مولاي أكلتها ، قال : اذهب ، فأنت حرّ لوجه الله ، فقال له الغلام : لأي شيء أعتقتني ؟ قال : لأني سمعت من فاطمة بنت رسول الله تذكر عن أبيها رسول الله : من أخذ لقمة أو كسرة من مجرى الغائط أو البول فأخذها فأماط عنها الأذى وغسلها غسلاً نعما ثم أكلها لم تستقر في بطنه حتى يغفر له فما كنت لأستخدم رجلاً من أهل الجنة .

وقال : أكرموا الخبز فإن الله أكرمه ، فمن أكرم الخبز أكرمه الله وعن عبد الله بن أم حرام قال : صليت مع رسول الله القبلتين ، وسمعت رسول الله يقول : أكرموا الخبز ، فإن الله تبارك وتعالى أنزله من بركات السماء ، وسخر له بركات الأرض ، ومن يتبع ما يسقط من السفرة غفر له وعن أبي الدرداء عن رسول الله قال : قوّتوا طعامكم يبارك الله لكم فيه رواه البزار والطبراني والتقويت معناه تصغير الأرغفة .

وإن من يتمادى في إهانة النعمة فإن ذلك سوف يعود عليه بزوال النعمة منه ، فقد روي عن السيدة عائشة رضي الله عنها أنها قالت : دخل النبي - - البيت فرأى كسرة ملقاة ، فأخذها فمسحها ثم أكلها ، وقال : يا عائشة ، أكرمي كريماً ؟ فإنها ما نفرت عن قوم فعادت إليهم أو فإنها لم تنفر عن قوم فكادت تعود إليهم وتعظيم هذه النعمة يأتي من تعظيم الله لقوله تعالى : وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم إذ أضاف النعمة لاسمه الأعظم ، وكل شيء يضاف إلى عظيم فهو عظيم ، كقولنا : رسول الله ونبي الله وولي الله ، وكقوله تعالى : ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب وقوله: فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها وأما عن إحصائها فإن الله تعالى قد علم من بني آدم أنهم لا يقدرون على إحصاء نعمه لكثرتها عليهم ، فأتبع ذلك بقوله : إن الله لغفور رحيم فدل ذلك على تقصير بني آدم في شكر تلك النعم ، وأن الله يغفر لمن تاب منهم ، ويغفر لمن شاء أن يغفر له ذلك التقصير في شكر النعم ، وبيَّن هذا المفهوم المشار إليه هنا بقوله : وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار (النحل 8 ) وبيَّن في موضع آخر أن كل النعم على بني آدم منه جل وعلا ، وذلك في قوله تعالى : ( وما بكم من نعمة فمن الله ) ومن النعم العظيمة التي أنعم الله بها على البشرية (نعمة الطعام) فالطعام نعمة إلهية كبرى ، لفت الله سبحانه نظر الإنسان إليها في كثير من الآيات القرآنية لينظر فيها ويعتبر ، ويعرف قدرها ، ويشكر الرازق الكريم، فقال جل ذكره : فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ ،أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبّاً ،ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً ،فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً ، وَعِنَباً وَقَضْباً ، وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً ، وَحَدَائِقَ غُلْباً ، وَفَاكِهَةً وَأَبّاً ، مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (عبس 24-32) وقال سبحانه : وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ ، وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنْ الْعُيُونِ ، لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (يس 33-35 ). ومن منطلق تعظيم النعمة وشكرها ، فإننا نريد أن نقف وقفات مع هذه النعمة العظيمة :

الوقفة الأولى : نعمة الطعام تدعونا أولاً إلى التوحيد والعبادة ، قال تعالى : قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ ولهذا المعنى العظيم استدل النبي الخليل إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم على وحدانية بهذه النعمة عندما خاطب قومه قائلاً : قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ ، أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ ، فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ ، الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ، وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ .

والوقفة الثانية : نعمة الطعام تحتاج إلى شكر المنعم جل جلاله ، عن أبي هريرة رضي الله عنه: دعا رجل من الأنصار من أهل قباء النبي , قال : فانطلقنا معه , فلما طعم النبي وغسل يديه قال : الحمد لله الذي يطعم ولا يطعم , ومن علينا فهدانا , وأطعمنا وسقانا وكل بلاء حسن أبلانا , الحمد لله غير مودع ولا مكافأ ولا مكفور ولا مستغنى عنه , الحمد لله الذي أطعمنا من الطعام , وسقانا من الشراب , وكسانا من العري , وهدانا من الضلال , وبصرنا من العمى , وفضلنا على كثير ممن خلق تفضيلا ، الحمد لله رب العالمين .

والوقفة الثالثة : للطعام آداب مرعية دلت عليها سنة رسول الله القولية والفعلية ، وهذه الآداب نذكرها باختصار :

أول ما يبتدأ به الطعام هو الوضوء وقد فسره العلماء بأنه غسل اليدين قبل وبعد الطعام ، فعنْ سَلْمَانَ قَالَ : قَرَأْتُ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ بَرَكَةَ الطَّعَامِ الْوُضُوءُ قَبْلَهُ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ فَقَالَ : بَرَكَةُ الطَّعَامِ الْوُضُوءُ قَبْلَهُ وَالْوُضُوءُ بَعْدَهُ وتسمية الله في أوله فعن عمر بن أبي سلمة رضي الله عنهقال : كنت غلاماً في حجر النبي وكانت يدي تطيش في الصحفة ، فقال لي رسول الله : يا غلام سم الله ، وكل بيمينك ، وكل مما يليك ، فما زالت تلك طِعمَتي بعدُ فإن نسي أن يسمي فليقل : بسم الله أوله وآخره .

ومن آداب الطعام : النهي عن عيب الطعام واحتقاره ، فإن رسول الله ما عاب طعاماً قط ، كان إذا اشتهى شيئاً أكله ، وإن كرهه تركه . وعلة النهي في ذلك : لأن الطعام خلقة الله فلا تعاب ، وفيه وجه آخر وهو أن عيب الطعام يدخل على قلب الصانع الحزن والألم لكونه الذي أعده وهيأه .ومن الآداب استحباب الاجتماع على الطعام :فإن أصحاب رسول الله قالوا : يا رسول الله ! إنا نأكل ولا نشبع ؟ قال : فلعلكم تفترقون قالوا : نعم ، قال : فاجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله عليه يبارك لكم فيه ما أجمل هذا الأدب النبوي ، وما أجمل أن يلتقي الجميع على مائدة واحدة الأب والأم والأبناء فتحل البركة وتجتمع القلوب .ومن الآداب المتأكدة في الطعام حمد الله عند الانتهاء منه ، فقد ثبت في الحديث الحسن : من أكل طعاماً ، فقال الحمد لله الذي أطعمني هذا من غير حول مني ولا قوة ، غفر الله له ما تقدم من ذنبه وكان النبي إذا رفعت المائدة من بين يديه قال : الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه ، غير مكفي ، ولا مودع ، ولا مستغنى عنه ربنا .



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات