الفتوى بين مطابقة الشرع ومسايرة الأهواء


الحكومةُ عندنا تُحاولُ أنْ تتحصَّن خلفَ ثقافةٍ تنكَّرتْ خلفَ نصوصٍ دينيةٍ مجتزأةٍ ، وفتاوى مفصَّلةٍ على مقاسِها ،وفقهاءَ قدَّمُوا فقْهَهم ،ليكُونُوا جُزءًا من حرسِ الحكومةِ، لدعم سلطانها وإصباغِ الشرعيةِ والقدسيةِ على قراراتِها .

الفتوى لها أثرها الكبير في حياة المسلمين إذ فيها بيان أحكام الدين لعامة المؤمنين ، وإذا استقام حال الفتوى وانضبطت استقام حال الأمة بأفرادها ومجموعها ، فالفتوى مقامها مقام عظيم وأثر استقامتها في الناس أثر كريم و الانحراف فيها بابٌ من الشر كبير .

لقدْ كانَ في تارِيخِنَا عددٌ لا يُستهانُ به (حَجْمًا ومكانةً) مِنْ “علماءِ الدِّين” الذين لَعِبوا دورًا داعمًا للاستبدادِ ،والظلمِ عَبْرَ فرضِهم لقراءةٍ تجزيئية لنصوصٍ معينةٍ ، انتهتْ إلى ترسيخِ “طاعة وليِّ الأمرِ” دونَ أنْ تُمَّيز في نوعيَّته ،أو تحددَ معاييرَ وليِّ الأمرِ هذا .

إنَّ طاعةَ العلماءِ ،واتَّباعَهم مربوطةٌ بقدرِ التزامِهم بالحقِّ ، ودفاعِهم عنه، وبقدرِ ميلِهم عن الحقِّ ، ومجانبَتِهِم إيَّاه ،يكونُ البراءةُ مِنْهُمْ ، والعداوةُ لهم ، فذلِك هو المِيزانُ الشرعيُّ الصحيحُ الذي دلَّت عليه النصوصُ ، وتواترَ به عملُ سلفِ هذهِ الأمةِ الصالحِ ، والولاءُ المطلقُ لهم فيما هُمْ عليهِ مِنَ الحقِّ والباطلِ ، هو إخلالٌ بمقتضَى الإيمانِ الذي أوثقُ عراهُ الحبّ في اللهِ والبغضُ فيه.

إنَّ أصحابَ هذهِ المواقفِ،والفتاوى مِمن رَضُوا بأنْ تتمترسَ وَرَاءَهُم الحكومةُ ، وتُدافعَ بِهم عنْها لتستر سوءتها ،أصرُّوا على الوقوفِ معها في خندقٍ واحدٍ.

إنَّ مواقفَ هذهِ الفئةِ من العلماءِ ، وفتاواهم التي خذلوا بها الحقَّ ،ونصروا الباطلَ ،وخانُوا أمانةَ العلمِ ، وميراثَ النبُّوةِ ، هي التي سَتدفَعُ كثيراً مِن أهلِ الحقَّ إلى سحب الثقة منهم ،وقطع الأمل فيهم وكان ذلك من أهمِّ أسبابِ سوءِ العلاقةِ بين كثيرٍ ممنْ يُصنفَون في خانةِ العلماءِ من جِهةٍ، وكثيرٍ من العامٍلين للإسلامٍ من جهةٍ أخرى.

إنَّ دائرةَ الإفتاءِ ومَنْ أدلَى بدلوِها مثالٌ صارخٌ كوعَّاظٍ للحكومةِ ،شرَّعُوا لها الظُلمَ والتسلّطَ ، ورأينَاهم يمشونَ خلفَ سُلطانِ الحكومةِ ويؤيدونَها ويدعمونَها في أزمتِها ومِحنتِها أمامَ مطالبِ المعلمين ،بدلاً من وقوفِهم إلى جانبِ المعلمين المظلومين ،المقهورين ،المحرومين مِنْ كثيرٍ مِن حقوقِهم ،إنَّها بحقًّ فضيحة!

ليس غريبًا أبدًا أنْ نجدهم ،مع رموزٍ تراثيةٍ أخرى، تنتمي لتيارِ النومِ ، والشخيرِ التاريخيِّ ، والتعايشِ معَ الواقعِ الفاسدِ الظالمِ الذي أملى على فضيلتِهم بذلَ قُصَارَى جَهْدهِم للدفاعِ ، والتأويلِ ليُثبَّتَوا عليها أقوالاً تَشِي ، بلْ وتصرحُ بالظلمِ البَوَاحِ ، مُحَاوَلة منهم التأوُّلَ والتبريرَ، ليبلغَ حدَّ الادِّعاءِ بأنَّ إضرابَ المُعلمِين ، واعتصَامَاتِهمْ مُخالفٌ للشرعِ الحنيفِ .وما المانعُ مِن صدورِ فتوى أخرى تُحرِّمُ الزواج مِن المعلِّم النقابي أو المعلِّمة النقابيّة المُضرٍب عن التدريس ؟!!أقولُ لهم:"أينَ كنتَم ممنْ أساؤا الأمانةَ ،وخانُوا العهدَ ،وباعُوا الوطنَ ونهبوه وقدَّموا حقَّ اللصوصِ على حقِّ الوطنِ؟!!"
إنَّهم بحقٍّ كانُوا السندَ الداعمِ لآكلِي الحقوقِ ،حيثُ استخدمُوا كلَّ ما يملكونَه مِنْ “معلوماتٍ”- التي يسمِّيها البعض عِلمٍا - لتجييشِ الناسِ ضدَ مَن لَهُم عليهمْ حقُّ الفضلِ ،الذي كانَ سببًا لغطرسةِ الكثيرين وتطاولِهمْ والاعتداءِ الجسديِّ على بعضِ المُعَلمِين في مدارسِهم ،بعدَ شتمِهم وتحقيرِهم ، وبفعلِهِم هذا منحوا الحكومةَ “صكًّا” للوقوفِ ضدّ حريّةِ وكرامةِ وحقوقِ المعلِمين ، مما شجّعَ وزيرَ التربيةِ للتصريحِ بأنَّهُ سوفَ يأتِي بقطعِ غيارٍ مقلدةٍ ،بدلاً مِنَ المعلِمين الأُصلاءِ . وفصْلِهمْ مِن وظائِفِهم ،ووقفِ رواتِبهم وما إلى غير ذلك ، ليكونَ بذلك رأسَ حربةٍ في الدفاعِ المباشِرِ والصريحِ عنِ الاستبدادِ ،والظلمِ !!ظنًا منها " أي الحكومة" أنَّ بالإفتاءِ تُعالَجُ القضايا المطلبيَّة العامّة.

الحكومةُ كانتْ أحوجُ إلى مَنْ يُعرِّفُهَا بالإسلامِ، بحقوقِ العبادِ، بردِّ المظالمِ،بحسنِ الأداء ، كما فعل القدوة الحسنة ،رسول الله – صلى الله عليه وسلم مع الفاروق عمر قال زيد بن سعنة:- فأخذت بمجامع قميصه وردائه -أي رسول الله - وهو في جنازةِ مع أصحابهِ - ونظرتُ إليهِ بوجهٍ غليظٍ ،وقلتُ: يا محمدُ ألا تقضيني حقِّي ؟فوالله ما عَلِمتُكم بَنِي عبدِ المطلبِ لَمُطْلٌ، قال: فنظرَ إليَّ عمرُ وعيناه يدورانِ في وجهِهِ كالفلكِ المستديرِ.

ثم قال: يا عدو الله أتقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - :ما أسمع، وتفعل ما أرى ؟ فوالذي بعثه بالحق ،لولا ما أحاذر لومه ،لضربت بسيفي رأسك ،ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينظر إلى عمر في سكون وتؤدة وتبسم.

ثم قال: " أنا وهو كنا أحوجُ إلى غيرِ هذا مِنكَ يا عمرُ ،أنْ تأمرني بِحُسنِ الأداء ،وتأمَرهُ بحُسنِ التِبَاعَةِ ،اذهب به يا عمرُ فاقْضِهِ حَقَّهُ ،وزدهُ عِشرين صاعًا مِن ثمرٍ " فأسلم زيد بن سعية رضي الله عنه الذي كان حبرًا من أحبار اليهود.

لذلكَ كانَ منَ الطبيعيِّ للإعلامِ الرسمِيِّ أنْ يتبنَّي هكذا ’آراء ،وترويجَ هكذا فتاوى بشكلٍ مستديمٍ ، وفُرِضَها على عقولِ الناسِ في الوقتِ الذي لمْ يكنْ مسموحًا لغيرِه بالتعبير عن رأيه عبر الإعلام الرسمي.

والحقيقةُ أنَّ التدقيقَ في فِكرِ هم يجعلُنَا أمامَ بعضِ الحقائقِ، منها أنَّهُم قدَّمَوا نسخةً منقولةً بالمسطرةِ لتيارٍ لعبَ دورًا في جعلِ الفقهِ والعقيدةِ في خدمةِ الأمرِ الواقعِ والتأقلمِ مَعَهُ.

كتب الدكتور على الوردي - رحمه الله - في كتابه الرائع (وعَّاظ السلاطين) يفضح زيفَهم، قائلاً : (الواعظً يُصَفِّقُ للظالمِ، ويبصُقُ فى وجهِ المظلومِ ،ولا يفتأ الواعظون يدعون لأصحابِ السيفِ والسوطِ بطولِ العمرِ فى كلِ صباح و مساءٍ ،فهم يقولون للظالمِ أحسنتَ وللمظلومِ أسأتَ، ويظهرُ مدى النفاقِ الذى يتعاطاهُ الواعظون حيثُ همْ ينذرُونَنَا دَومًا بعذابِ اللهِ بينما هم يَهشّون ويَبِشُّون فى وجوهِ الظلمةِ ،ويقومون لهمْ احترامًا وإجلالاً، فإذا اعتدى أحدُ المترفين على فقيرٍ ،وجدّتَ الواعظِين يضعون اللومَ على عاتِق هذا الفقِير وحدَهُ، بينما إذا أخطأ الفقيرُ مرةً فاعتدى على مُترَفٍ ،قامتْ قيامةُ الوعَّاظِ وأخذتْ مواعظُهُم تنهمرُ على هذا الفقيرِ مِن كلِّ جانبٍ، لقدْ نَسِىَ الواعظون بلْ تناسَوا اللصوصيَّة الكُبرى للظالمِ ،الذى ينهبُ أموالَ الأمَّةِ ويبذِّرُهَا على ملذَّاتِه وملذَّاتِ أبنائِه وأعوانِه، إنَّ مُشكِلَةَ الوعَّاظِ أنَّهم يأخذون جانِبَ الحاكِمِ، ويحاربون المحكومَ ، يتغاضَون عن تعسُّفِهِم ونهبِهم وترفِهم ،ثم يدْعُون لهم بطولِ العمرِ فقد وجدَ الطُغاةُ فى الواعظِين خيرَ عونٍ لهم فى تخديرٍ الناسٍ وإلهائٍهم، فينشغلوا عن ظلمٍ الطغاةٍ وفسَادِهم وطغيانِهم)وصدقَ الله العظيمُ إذيقول وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ(204)البقرة

Montaser1956@hotmail.com



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات