الأستاذة غزّة


تعلمنا وتعودنا أن نجلس أمام الأستاذ وفي حضرته بأدب ونستمع إليه بخشوع ، ننهل من معينه ونأخذ من علمه ونتعلم من تجاربه . فكيف إذا كان هذا الأستاذ كبيراً وعصاميّا وموسوعيّا ، حصّل علمه ومعارفه وتجاربه بجهده وعرقه وسهره ومثابرته ، وترقّى إلى درجة الأستاذية بعد أن ترقّى بالعطاء والبذل والتجربة الممهورة بالدم والدموع والفقد والعذابات .

لقد كانت تجارب قاسية إلا أنها غنية بالعبر والاعتبار ، يصلح كلّ منها ليكون مدرسة بل جامعة .

ويصلح أفرادها ليكونوا أبطال روايات مفتوحة أو مسلسلات لم تكتمل . استفادت منها غزة لتجعل منها نموذجاً للشعوب المستضعفة ذات الإمكانات القليلة والظروف الصعبة وعدم وجود العمق الجغرافي والسكاني والإستراتيجي وتواضع الدعم وندرة النّصير .

ومع كل هذه الظروف غير المساعدة والتي تقول حسب المنطق وكل أنواع الحسابات وفي كل الأعراف العسكرية والاقتصادية والإستراتيجية ، بأن الوضع ميئوسا منه ، ولا يمكنه الصمود والاستمرار .

لقد علمتنا غزّة بأن الإنسان هو الأصل وعليه المعوّل ، هو مصدر كل خير وتقدّم وانتصار ، والذي يملك قوى غير محدودة يستطيع تسخيرها لتجاوز كل العقبات وتحدي كل الصعاب . ونوعيّة الإنسان هذا يمكن إيجاده في كل المجتمعات ، بشرط أن يجتمع مع هذه القدرات الذاتية إيمان وطاقة ذاتية تدفع للعمل تحت كل الظروف ، والاستفادة من كل شيء وأي شيء مهما كان بسيطا . والانضباط والاستفادة من الوقت وعدم هدره أو إضاعة أي فرصة .

إنه الإنسان الذي يستطيع أن ينزل بحاجاته ومتطلباته إلى ما دون الحد الأدنى ، فيتخلى عن كل الكماليات ومعظم الأساسيات ، ويتدبر أموره وأوضاعه بما هو متاح ، بل مما لا يخطر على بال ، فالحاجة أم الاختراع . وهو نفسه الإنسان الذي يمكنه أن يرتفع بطاقاته وقدراته وهمته إلى ما هو أعلى من الحد الأعلى .

ولقد علمتنا غزة بأن الإرادة تصنع المعجزات وتتفوّق على الصعاب وتُجسّر الفروق الهائلة في العدد والعدّة والتكنولوجيا . وبأن التصميم على تحقيق الأهداف الموضوعة مسبقا والناتجة عن تخطيط سليم ومتابعة حثيثة مستمرة ومراجعة وتدريب ، يجعل تحقيقها أمرا ممكنا . وأنّ الإنسان بإرادته لا بما يملك أو يتوهم أنه يملك . وأن أي خلل في الإنسان يبدأ بإرادته وقواه الدافعة ، وأن إن ملك الإرادة أصبح ما بعدها أيسر .

كما علمتنا غزة بأن الوحدة مصدر كل خير والفرقة مفتاح كل شر . فالمجتمع الموحد مجتمع قوي متماسك عصيّ على الاختراق والعبث . وما تمكن الأعداء من أي مجتمع إلا بعد بث روح الفرقة فيه .

وهم بخبثهم ودهاءهم يدرسون المجتمعات ويلعبون على التناقضات فيها وينفخوا في الاختلافات لتصبح خلافات . وهم يحاولون أن يُقسموا المجتمعات إلى شيع وطوائف حتى يصل الانقسام إلى أصغر الوحدات الاجتماعية فيسود التناحر والعداء بدل المحبة والوئام ، لدرجة أن يستعين قسم من المجتمع بالأعداء لينصره على أخوته وبني قومه . فشعار وحدتنا مصدر قوتنا هو الذي يجب أن يسود .

هذا غيض من فيض ما علمتنا إياه " الأستاذة " غزة ، وحُقّ لها أن تكون أستاذة ، فقد صنعت ما يفوق الخيال وما يتضاءل أمامه أي وصف ، حتى أمكن القول : لقد أتعبتِ من بعدك يا غزة .



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات