مقتطفات من خاطرة: على ضفاف وادي الطواحين


جراسا -

"على ضفاف وادي الطواحين"
د.عمر خليف الغرايبة- استراليا
كانت تلك الأيام هي بدايات النجاح،
وبدايات العطاء...
وبدايات الأمل بأن هناك دائماً:
فجرٌ جديدٌ...
وهناك دائماً:
تطورٌ، وارتقاءٌ، ورخاءٌ، والمزيد
في الطبيعة، والإنسان...
رغم البؤس، والشّقاء، والأحزان...
وهناك دائماً:
موسيقى للحياة...
علينا أن ننصتَ لها،
ونفهمها كي نسير معها...
وكُلّما تأمّلنا الطبيعة أكثر
كلما أعطتنا من حِكمتها أكثر...
وأخَذتْنا نحو التّجَلِّي مع قوانينها،
والعيش في عُمق عناوينها...
***
ومنكِ..
ومن جمالِك الأخّاذ..
يا عجلون....
عرفتُ، واستنتجتُ، واقتنعتُ:
بأنّ الجمال الموجود فينا
ما هو إلا جمال منعكسٌ من الرّحمان...
والجمال الموجود في الطبيعة
ما هو إلا جمالٌ منعكسٌ من الإنسان...
دياليكتيكٌ ماديٌّ...
ونفخٌ روحيٌّ...
وتواصلٌ...
وانسجامٌ...
على مستوياتٍ عاليهٍ
يُغذي في جِسمك ماء الحياه...
ويشعّ في وُجْدانِك من نُور الله...
***
في ذلك اليوم الجميل...
ومع صوت العصافير
التي تُداعب أوراق شجر اللزاب
الذي يُعانق أطراف بيتنا...
المتربّع في الجهة الغربية من القرية،
قريتي الوادعة...
الغافية على جبين جبال عجلون...
وبيتنا المُطلّ بشرفته على الغور...
وجبال نابلس...
وسهول جنين...
كان للدّيك في بيتنا مراسيم معينه...
وله صوتٌ مميّز قبل ساعات الصباح
يرسلها كموسيقى مع بدايات الفجر
وهبوب الرياح...
ليُذكّرني باستئذان دخول لحظات الصباح...
***
كان عملي الجديد يتطلب مني
أن أستيقظ مُبكراً ....
كان الوقتُ بين نهايات الليل...
وعتبات النهار،
يتسلّل النهار ببطءٍ
ليُزيل ظلمة وعتمة الليل...
ويتنفس الصّبْح بهدوءٍ للدخول...
ويقوم الليل بدورة بلملمة لحظاته الأخيرة،
وأنا... أنا بين النعاس:
الذي يأخذني...
والنوم:
الذي يستدرجني...
ودفء الفراش:
الذي يُغويني..
وهمّ الواجب
الذي يغريني...
ولكنّ صياح الديك...
وتداخل أصوات العصافير...
وتنفّس الصباح...
وروائح الأقاح...
تشدّني أكثر...
فأنهض مسرعاً لوادي الطواحينِ
حيث العمل الذي يجذبني ويستهويني...
***
لم أكن أعرف
أنّ جمالَ ذلك الصباح...
والسير بين نسائم ذلك الوادي
سيُغّير نظرتي إلى الحياة...
ويُوقِدُ في نفسي شعلة الأمل،
وحيوية النجاح...
لم أكن أعلم
أن ذلك الوادي بِعِطْرهِ الفوّاح،
حيثُ عملي الجديد،
يبعث الأمل...
والنّجاح...
وحب الأوطان...
والفَلاح...
وفيه إكسير الحياة
وسرّ أسرار النّضال، والكفاح...
***




بدأت خيوط الشمس تتسلّل بلطفٍ
من على سفوح جبال الشرق...
لتُلقي بأشعتها الساحرة على سماء عجلون ...
وترسم خيوط الشمس الذهبية بداياتها
لتُقبّل قمم جبال عجلون الشمّاء...
وتعانق أشعتها غاباتها وأشجارها...
وتمسح الندى المتصبّب
عن جبين أرضها الطّهور...
***
وبلطفٍ مُثيرٍ
تُحَرِّك الرياح
أوراق الشجر الغضة...
المتنامية على أغصانها...
المترامية على أطرافها الخضراء...
مستقبله بابتسامتها
المرسومة على آفاق رؤوس أشجارها الشامخة
يومها الجديد...!!!
***
كان جمال جبال عجلون في ساعات الصباح
كجمال العروس
في يوم زفافها...
وكجمال زهور الياسمين
عند تفتحها في نيسان...
وقطرات الندى ما زالت تعانق الأوراق المنتشرة
على ضفاف أشجار البلوط...
والسنديان اللامتناهي...
***
يرقص النحل
ويرسم لوحه فنيه
بين الزهور والأشجار...
عنوانه الأخذ والعطاء
آخذاً رحيق الزهور
ومُقدّماً حلاوة العسل،
فتأخذ الزهرة لوناً عَطِراً
وتعطي النحل عسلاً صافياً...
فيسقط الجزء في الكل
ويتداخل الكل في الجزء
لتصبح الطبيعة كلها
لوحه فنيه واحده...!!!
ومع نسيم الصباح
تتداخل روائح الأزهار
وعسل النحل
وجمال النّاس في الوادي...
***
وتنتقل المشاهد الجميلة
إلى محطّاتِ قلبك
لتُحيِي فيك:
جميع معاني النشاط
والحب والحيوية...
أمّا شجر الجوز الضخم
الذي يغطي وادي الطواحين
فيُشعرك بوقارهِ...
وتواضعهِ...
وعِشقهِ...
وانتمائه إلى الوادي...
لتنمو جميع الأشجار الصغيرة
تحت شجر الجوز
كأطفالٍ يلعبونَ
مع كبارهم...
***
لجمال الطبيعة أسرار
فهو يدخل إلى الروح
بدون مقدمات...
ويفتح نافذة القلب مبتسماً للمستقبل
بدون متاهات...
ليزرع في النّفوس
حب الحياة والعطاء...
ويكبر هذا الحب ويزدهرْ
ويتّسع ليشمل الوطن
كل الوطن...
وتشهد الحياةُ تناغماً عجيبْ
وتندحر كلّ أشكال الفتنْ
إنّه ثالوثٌ رهيبْ:
جمالُ المكانْ...
وعبقريةُ الإنسانْ...
عِبْر الزّمانْ...
***
نعم... نعم...نعم...
عندما تحبُّ وتعشقُ الطبيعة
"طبيعة الوطن"
تتعلم معنى الحياة...
وتتوطّن في نفسكَ
روح العطاء...
وعُمق الانتماء...
وصدق الولاء...
من أجل ذلك ترمي بنفسك
في أحضان القدر الجميل
نعم من أجل هذا...
قد ترمي بنفسك
من أعلى القمم
في سبيل هدف تسعى لتحقيقه
أنّه منظور الانسجام، والتناسق..
ومنظور التطور، والارتقاء، والتوافق...
***


حب الطبيعة
وحب أرض الوطن...
درس كبيرٌ...كبير
يتعلم منه الجميع:
الكثير... الكثير
معنى جمال الحياة...
واتّساع الوجود...
والذّود عن الحدود...
يتعلم منه الإنسان:
معنى السموّ والعطاء...
وروح التضحيةْ، بكبرياء...
والتّسامح المُتسامي
نحو الأعالي
أو الأفق الفسيح
بلا حدود...
أو قيود...
***
كانت تلك اللحظات
التي عِشتُها جِوار وادي الطواحين
النغمة الرّقيقة الأولى...
التي جعلتني أرى
جمال عجلون
المُعتّق العميق...
الصّادق...
الشّفاف والرّفيق...
عشقُتها من نظرة أولى...
وفي الغُربةْ...
وطِيلة الغربةْ
عاشت بخاطري
" كالصيفِ في بالِ العصافير"
حكاية حبّنا التي نَمَتْ وأيْنَعتْ...
على ضفافِ وادي الطّواحينِ
فأيقظت بداخلي كل أنواع الشّوق والحنينِ...
فاهتز ّحبّها في داخلي
فأنبت:
من كلّ زوجٍ بهيج...
نعم...نعم...نعم...
اهتز حبّها في داخلي
مثلما تهتز:
الأرض اليابسة العطشى
لتستقبل حبات المطر الأولى...
***
ما كنتُ أشعر بثقل العمل آنذاك
فأغصان الأشجار الوارفة على الطريق
كانت تقبّلني كلّ يوم
وتعطّرني بالحبّ والندى...
أمّا شجر الزيتون الرومي
الضارب في الأرض...
فكان ينظر إليّ نظرة الشيخ الجليل
الذي تفيض عيونه، وقلبه ندىً أصيل
وآثار الطواحين القديمة
العصيّةِ...
البهيّةِ...
المُنتشرة على
جَنَباتِ مجرى الوادي
كانت تترك في نفسي المعنى الجميل
للتداخل بين الماضي والحاضر
وبين الحاضر والمستقبل...
وتسمع فيها أصوات الناس
الذين مرّوا من هنا...
أو عاشوا هنا...
قبل مئات السنين...
وترى ثنائية الحياة
موجودة في كل لحظةٍ
وفي كل بقعةٍ
من ذلك الوادي.
***
بين الأخذ والعطاء...
والنحلة والزهرة...
والغصن والثمرة...
ثنائية مُتصلة
وغير مُنفصلة...
تتكرّر بين:
الشجر القديم والحديث...
والطويل والقصير...
وهذا التنوّع المُثير
في ذلك الوادي:
الشمس والظل...
والصغير والكبير...
والطيور والبشر...
والأغنام والمياه...
يُشعرْك بأنّك في لوحةٍ
كاملة الأوصاف...
نسيمٌ منعشٌ عليل
يداعب كلّ يومٍ وجنتيك...
وحبات الندى:
تنقلك إلى طبقاتٍ أعمق
داخل النّفسِ والرّوح...
لتُغذّي الشوق الأزلي
والحبّ السّرمدي
المُتدفّق في حناياك...
على حصانٍ أشهبٍ كبير
أنفاسُهُ كأنّه العبير...
عائدٌ إليك يا عجلون
إن شاء الله...
وفي يدي أكاليل من الورود
جمعتها في رحلة القدر
من أجمل البقاع في الجزر
من أجل عينيكِ يا قمر....
أ.ه




تعليقات القراء

‏@ابن الزبون @
روعه على روعه من شخص روعه
11-03-2014 08:58 PM
جوهرة جراساااا
جميله جدا جدا......الله يرجعك بالسلامه للوطن ولاهلك بعجلون
12-03-2014 12:55 PM
حكاية وطن
رائعة جداً د.عمر

وانا اقرء كلماتك تذكرت احد المعلقين هنا يحمل لقب سلااامة
لا اعلم لماذا تخيلته صاحب المشاركة لربما لانه مغترب عن وطنه كما يقول هو في مشاركاته

د. عمر رائعة جداً جداً جداً مشاركتك والله يرجعك بالسلامه لاهلك ووطنك .
12-03-2014 04:02 PM

أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات