العافيةُ المفقودة .. !


هَب أنّك وجهت لجمهورٍ عريض من النّاس في مجتمعك السّؤال الآتي: ما هي العافية المفقودة في بلدنا مثلاً؟ طبعاً ستأتيك أغلب إجاباتهم متباينة وكلّ حسب تفكيره وتصوّره واهتماماته، وستكون بعيدة كل البعد عمّا جاء به ذلك الكاتب الرّائع والمفكر العظيم صاحب الميتة الغامضة عام تسعمائة واثنان بعد الألف، واسمه عبد الرحمن الكواكبي في كتابه (طبائع الاستبداد) القديم في تأليفه حيث كتبه في مصر قبل موته أو قتله، والحديث المُعاصر في فهمه لما يحدث في وطننا الآن... . 

يقول الكواكبي: (العافية المفقودة هي الحريّة السّياسيّة...، ومهرها كثرة الطّلّاب)، وعند النّظر والتّأمل في هذا القول؛ تبرز لنا أهميّة الحريّة السّياسيّة التي سأبدأ معك أوّلاً بأوّل ولأُثبت لك عزيزي بأنّها لم تكن يوماً موجودة أصلاً لنقول بأنّها اليوم لدينا مفقودة...!

هلّا راقبت أوّلاً ما يجري في أيّامنا هذه، ولتصرخ معي تالياً صرخة الحريّة في وجه الظّالمين والفاسدين المستبدّين الذين شملوا جميع مجالات حياتنا بالظّلم والطّغيان والاستبداد؟ ألست ترى الآن ملامحَ ثلاثتها في ثلاثة ...؛ في الدّين وفي العلم وفي السّياسة...؟ ألم ترى بأنّها أصبحت لنا بيئة ومحيطا وألفناها خانعين واستسلمنا جميعاً لنارها، وثورتنا عليها تكاد لا تتعدّى ظواهر صوتيّة نطلقها هنا وهناك...

أمّا إن سألتني عن أسباب انحطاطنا سياسيّاً وثقافيّاً واقتصاديّاً وما أعيشه أنا وأنت من فتورٍ وتخلّف...؛ فالجواب عند الكواكبي إذ يقول: (الاستبداد يجعل الإنسان فاقداً حبّ وطنه لأنّه غير آمنٍ على الاستقرار ويودّ لو أنّه انتقل منه، وضعيف الحبّ لعائلته لأنّه ليس مطمئنّاً على دوام علاقته معها،...وأسير الاستبداد لا يملك مالاً غير معرّضٍ للسّلب ولا شرفاً غير معرّضٍ للإهانة...)، إذن...؛ الاستبداد هو دائي وداؤك ولن نشفى منه جميعاً إلّا بالعدالة والشّورى اللتان يطمئنّ بهما الإنسان على ذاته وذويه، ويتمتع من خلالهما بحقوقه كاملة، وفيهما يأمن على عائلته ووطنه...، فأين نحن من هذا يا هذا؟

لقد كنت أتمنّى لو أكون فيما سبق مخطئاً وأنّنا على العكس نعيش في أعلى مستويات العدل والشّورى وأفضل حالاتهما...؛ ولكنّ الواقع يقول بأنّ الأردنيين قلقون غير مستقرّون، طاقاتهم معطّلة، حوافزهم وطموحاتهم مقتولة، بلدهم محرومة من عطاءاتهم حيث كفاءاتهم العلميّة والاقتصاديّة مهاجرة أو مُحالة إلى التّقاعد في سنّ ٍ مُبكّر، وأسلوب حياتهم اللامبالاة، وعجلات تقدّمهم مفتوقةٍ، إذ يغتربون مع حكوماتهم فيزدرونها وتزدريهم (و لأمّهاتهم مقويينا...)، وهل يحدث ذلك إلّا في ظلّ استبدادٍ عدوٍّ لدودٍ للحريّة، أو ظلمٍ ضد العدل، أو طغيانٍ ضد الكرامة والفطرة الإلهيّة...؟!

وأظنك لا بدّ وأنّك قد سمعت بالمتمجّدين ما هم وما شروط الانتساب لهم...؛ وتسهيلاً للأمر دعني أوضح لك بأنّهم هم ما نطلق عليهم اليوم الرّموز والحاشية والنّخبة (الأشباح المصنوعة أصحاب الحظوة والمناصب) وما إلى ذلك...، ولأنّني لن أكون أفصح من الكواكبيّ...؛ فلتسمع يا أخي ماذا يقول عنهم وفيهم: ( فهؤلاء المتمجّدون هم فئة جعلت نفسها حاشية خاصة، فهم العين التي تراقب كل كبيرة وصغيرة لا تكون لصالح التسلّط، وهم اليد التي يُعتَدى بها على كرامة الآخرين، ويُستباح بها حرماتهم، والمستبدّون أعداء للحقّ وللحريّة، أنصار للظّلم والاستبداد...)، أمّا شروط الانتساب لهذه الفئة...؛ فأريدك أن تقارن وتعقل وتربط وأنت تسمعها من الكواكبي عندما يقول: (ومن شروط الانتساب إلى هذه الفئة أن يكون طالب الانتساب خُلْواً من أيّة قيمة ومبادئ دينيّة أو أخلاقيّة، وهي شروط ضروريّة حتّى يكون المتمجّدون أعداءً للعدل، أنصاراً للجور، والمقصود من إيجادهم والإكثار منهم هو التّمكن بواسطتهم من تعزيز الأمّة على إضرارِ نفسها تحت اسم منفعتها...)، وهنا إن تمعّنت كما طلبت منك...؛ فلن تكن بحاجة إلى من يُفسّر لك الكثير مما يحدث فينا وبيننا...، وبخاصة سبب تمسّكهم بنظام الصّوت الواحد الذي يعزّ الذّليل فينا ويُذلّ العزيز منّا، وتحت ما يُسمّى بالديمقراطية وهذا ما قصده الكواكبي بإضرار نفسها تحت اسم منفعتها... .

ولن أترك الكواكبي إلّا أن يُلخّص ليَ ولك الأمر، فيخبرنا في المقابل عن طلّاب المجد وليُفرقهم عن المتمجّدين فيقول: (طلّاب المجد يمتازون بالإقدام والتّضحية من أجل الجماعة، وشعارهم: أن الشّرف لا يُصان بغير الدّم، والمتمجّدون لا يُرجى منهم الخير، بل هم المساعدون على جلب الويلات لأمّتهم وشعبهم، فالاستبداد يُنمّي في عدد من المُقرّبين من ذوي السّلطان طلب التّسفّل بدل طلب التّرقّي...، بينما مناخ الحريّة والعدالة يُفجّر الطّاقات الكامنة في كلّ إنسان، فالفرد يعيش في ظلّ العدالة والحريّة نشيطاً على العمل بياض نهاره، وعلى الفكر سواد ليله، وبالمقابل ترى أنّ الإنسان في ظلّ الاستبداد يعيش خاملاً ضائع القصد، حائراً لا يدري كيف يُميت ساعاته وأوقاته، ويدرج أيّامه وأعوامه، وكأنّه حريص على بلوغ أجله ليستتر تحت التّراب...) ومن منّا لم يُفكّر بالموت بعد ولم يمنعه عنه إلّا التّواصيَ بالحقّ أو التّواصيَ بالصّبر أو الاثنان معاً؟!

وأخيراً...؛ يَفترض الكواكبي بعض الحلول التي يدعونا للأخذ بها للحيلولة دون تحويل المجتمع بداء الاستبداد إلى جثّة هامدة ينال منها كل من أراد من أعدائنا المتربّصين، وأن لا يُصاب بسببه أصحاب القدرات بالسّلبيّة والتّشاؤم والقلق، ويرى بأنّ الطّغيان لا بدّ أن يدفع المستنيرين من أبناء المجتمع الواحد إلى مقاومة الاستبداد، ولله دره عندما يقول: (يدفع الطّغيان المستنيرين من أبناء المجتمع إلى تكثيف جهودهم، وتنشيط حركتهم من أجل تنوير النّاس، واستنهاض هممهم من أجل مقاومة الاستبداد ومقارعة المستبدين...)، وهنا لن أخاف على الكواكبي لو سألته مثلاً: كيف وبأيّ سلاح ستتم المواجهة يا عبد الرّحمن؟ فمثله وبقامته الشّامخة...؛ لا بدّ أن يُجيبك فيقول: ( العنصر الأهم في هذه المواجهة هو الوعي الدّقيق لمشكلات المجتمع، وتلمّس الحلول لها، تمهيداً لبدء حركة الإنقاذ والوعي، وهذا لا يتوفّر عادة إلّا بنشر الثّقافة وتحديد الملامح الأساسيّة لأطر الفكر السّياسي الإصلاحي الذي سيعتمده دعاة النّهضة...)!

رحم الله الكواكبي...؛ لقد كان يحفظنا عن ظهر قلبٍ ويعرفنا، وكأنّه يعيش الآن بيننا، ولو أنّه يُبعَث؛ لتجرّأت وقلت بُعِثْ...!

د. صالح سالم الخوالدة
جامعة العلوم الإسلاميّة العالميّة



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات