الفزعة غطت على عيوب التخطيط الحضري للمدن


المدينة هي مساحة جغرافية تضم عدد كبير من الناس ويُطلق عليها مصطلح المنطقة الحضرية Urban Area وهي التي تُسكِن ما لا يقل عن 2500 شخص وبكثافة خمسة آلاف شخص بالميل المربع أو حوالي شخص لكل 0.62 متر مربع. والتكتل الحضري هو عبارة عن مدينة ممتدة تشمل المناطق المبنية في مكان ما وأية ضواحي على أن تكون مستمرة الإرتباط مع مناطق حضرية. وقد تشكلت في الأردن تجمعات حضرية متناثرة ما لبثت أن إقتربت من بعضها البعض لتلتحم في نسيج حضري واحد Urban Fabric كما هو الحال في الرصيفة والزرقاء والسلط وصويلح وهكذا دواليك.
ويتطلب إدارة التجمعات الحضرية جهداً إستثنائيا يشترك فيه عدة جهات تقدم خدمات للمواطنين ومنها خدمات إدارية وخدمات التزويد بالمياه والكهرباء والصرف الصحي والإتصالات والأمن وتزويد المواد الغذائية وتوفير الأماكن الترويحية والرعاية الصحية وغيرها الكثير مما لا يتسع المجال لذكره في هذا المقال. ولهذا فإن إختيار أسلوب الإدارة الأمثل هو الطريق للنجاح او الفشل في إدارة المدينة، فهل أصبح العيش في المدينة عبئاً بما يُنذر بموتها، أم أن المُدن مُرشحة للزيادة في الكثافة السكانية، وللإجابة على هذا السؤال علينا أن نعود الى السبب لنشوء المدن Why do cities exist والجواب على ذلك في أن الأفراد غير مكتفين ذاتياً Individuals are not self-sufficient ولو تمكنوا من إنتاج كل شيء يستهلكونه فما إحتاجوا إلى الرفقة ولم يكن هناك داعٍ للعيش في جو المدينة الملوث والمزعج والمزدحم. وبعبارة تخصصية نقول بأن المدن تنشأ بسبب رجوح كفة المنافع التي تُجنى بسبب التركيز في الإنتاج مقابل كفة كلفة المعيشة في بيئة عالية الكثافة السكانية.
وتدار المُدن بالإدارة المحلية Local Administration وهي عبارة عن توزيع الوظيفة الإدارية بين الحكومة المركزية وهيئات محلية منتخبة، تمارس عملها تحت إشراف ورقابة السلطة المركزية ومثال ذلك البلديات (عمّان، أربد، الطفيلة ... الخ).
ما يهمنا هنا هو التركيز على مصطلح بلدية Municipality والتي تختص بإدارة جزء معين من منطقة حضرية وهو النهج المتبع في غالبية دول العالم فهناك بلدية نيويورك وبلدية لندن وبلدية برلين وفينا وهكذا، ولكن الإدارة الأردنية أخترعت ما يسمى بالأمانة فأصبحت عمّان تسمى أمانة عمّان الكبرى وهناك بلدية أربد الكبرى والسلط الكبرى وغيرها، لا بل استمرت الإدارة الأردنية في تفريخ الهياكل التنظيمية فأخترعت مؤخراً سُلطات مثل سلطة منطقة العقبة الخاصة وسرحت لحد إبتكار مناطق تنموية ضمن المدن مثل مجمع الأعمال في شارع المدينة الطبية ومُدن صناعية لها صلاحيات مجلس التنظيم الأعلى بحيث أصبح في الأردن حارات ومناطق نفوذ تنظيمية. والأنكي من ذلك فقد قُسمت الصلاحيات وتداخلت لدرجة التوهان فأصبح الشارع مطية لمن رغب، فالبلدية تعبد الشوارع لتغتصبها حفارات سلطة المياه وتنتهكها مواسير الصرف الصحي وكيبلات شركة الكهرباء وأسلاك الإتصالات، كل ذلك يجري في سلطات مستقلة كلياً بعضها عن بعض بدون وجود حقيقي لما يسمى على الورق بمجلس التنظيم الأعلى وفي غياب تام للمخططات الشمولية. ويبدوا أن الحكم المحلي قد ركز على ال (كيف) ندير المدينة بغياب (ماذا) ندير في المدينة. إن إدارة المدينة يجب أن تستند إلى مخططات شمولية تراعى الإستعمالات المطلوبة للأراضي السكنية والتجارية والحدائق ومراكز النمو كما يجب أن تكون منسجمة مع دراسة للنقل المرور. إن غياب هكذا مخططات من البلديات جعلها تدير العمل بالقطعة وجعلها تتعامل مع الظروف الجوية بالفزعة.
إن غياب التخطيط المركزي عن فكر الإدارة الأردنية في السنوات العشر الأخيرة هو السبب المباشر في تحجيم دور وزارات التخطيط والبلديات التي كانت تضم دائرة للتخطيط الأقليمي وهو السبب في إفشال مشاريع المخططات الشمولية للمدن لأن وجود هذا النوع من المخططات المصدقة نهائيا من قبل مجلس التنظيم الأعلى يشكل عائقاً أمام السماسرة المستعدين لنسف جميع المخططات الحضرية والتنموية إن لاحت فرصة لعمولة أو تكسُب، ولهذا تجدهم يطلقون إسم الإقتصاد الحر ولربما يقصدون التغول الحر في غياب التنظيم.
لقد عشنا في الأيام القليلة الماضية حالة منخفض جوي أربك الدولة حيث ظهرت العيوب في البنية التحية والفوقية فما الفارق بينها بغرض وضع اليد على مواطن الخلل. البنية التحتية هي المنشأت المادية والأنظمة التشغيلية اللازمة لدوران العجلة الإقتصادية في منطقة ما مثل الطرق وشبكات المياه والصرف الصحي والكهرباء والطاقة والإتصالات. أما البنية الفوقية فهي الأفكار الانسانية سياسية كانت أو فنية أو حقوقية أو فلسفية وتشمل كذلك هيكل الدولة المؤسسي والأحزاب والمؤسسات الحقوقية والنظام التربوي، وببساطة أشد فإن البنية الفوقية تركز على الخطط التنموية والأفكار المدروسة المثبتة على المخططات الحضرية التي تراعي مصالح جميع الأطراف المتشاركين في العيش في المدينة والقائمين على خدمتها لخدمتهم.
إن أحد أهم أسباب زيادة الضغط على البنية التحتية التي كانت مصممة لخدمة مليون مواطن في عمّان وأصبحت مجبرة لخدمة مساحات بعشرة إضعاف المساحة المصممة هو الإنتشار الحضري Urban Sprawl في غياب المخططات الشمولية التي توضح إتجاهات النمو وإستعمالات الأراضي. وقد شجعت الممارسات التخطيطة على توسيع رقعة المدينة بالتوسع في جميع الإتجاهات دون ضوابط تخطيطية فقامت الدولة بتوزيع الأراضي من خلال ما يعرف بالواجهات العشائرية وزادت نسبة الملكية الخاصة للأراضي في غياب مخططات حضرية تسيطر على عمليات إفراز الأراضي التي تمت وما زالت تدار من قبل مساحيين للحصول على أكبر عدد من قطع الأراضي وتمكن العديد من المتنفذين في فرض هياكل تخطيطية مضحكة كمن يقسم سدر الكنافة ولدرجة أن أحد رؤساء الوزراء السابقين أشترى جزء من مارس عمشة المقابل للمدينة الطبية وتمّكن من إفراز أراضي مساحة كل منها 500 متر مربع وأقل، وأحتصل لها على أحكام (ج-خاص) بإرتفاع طابقين فقط وبسعة شوارع ستة أمتار. وتكررت مثل هذه الممارسات حتى أصبحت نسبة المساحات المغطاة بالاسمنت والإسفلت ضمن حدود أمانة عمّان تغطي السواد الأعظم من أراضيها، وبذلك فقد عملت كأحواض تجميع للمياه التي تصب في الشوارع وتسال عبر شبكة تصريف مياه الأمطار ذات الطاقة الإستيعابية المحدودة إلى السيول والأودية. وتتفاقم المشكلة عند إنسداد شبكة الصرف الصحي لقيام العديد من المنازل بربط مزاريب المطر بالمجاري فتفيض المناهل وتنكشف أغطيتها.
وغالبا ما تظهر العيوب في الأحوال الإستثنائية ولنا منها نصيبين الأول ملموس في البنية التحتية والثاني محسوس في البنية الفوقية للمجتمع ولهذا فإن التركيز يجب أن ينصب على إعادة النظر في التشريعات الناظمة للحكم المحلي والإدارة المحلية مثل قانون تنظيم المدن والقرى ونظام الأبنية والتنظيم للبلديات وإعادة النظر بعمل الجهات التي تشرف على مراحل ترخيص الأبنية مثل المكاتب الهندسية ونقابة المهندسين والدفاع المدني وإشتراط تضمين التخطيط الحضري للمشاريع كمتطلب للترخيص من حيث تصميم الموقع العام والأسوار والجدران الاستنادية وضبط عملية التنفيذ والإشراف عليها والتشدد في منح إذن الإشغال لحين تحقيق متطلبات كودات البناء الوطني الأردني المتوفرة والبدء الفوري بإعداد كودة التخطيط الحضري لتضع معايير تخطيطية للمناطق الحضرية والتي بموجبها يتم توكيل إفراز الأراضي لمهندسي التخطيط الحضري وضبط إستعمالاتها وفق المعايير التخطيطية العالمية. نعم إن ما حصل في عمّان والبلديات الأخرى يعزى إلى مشاكل في التخطيط الحضري ولم يكن لتقصير أو إهمال من إدارات هذه البلديات. كما يجب القول بأن الفزعة الأردنية هي التي غطت على عيوب التخطيط الحضري للمدن فكل الشكر لنشامى الدفاع المدني والأمن العام والجيش العربي وكوادر الأمانة والبلديات والحراكات الشعبية التي ساهمت جميعها في تخطي هذه الحالة الجوية بأقل قدر ممكن من الخسائر.
وحتى يتحقق هذا كله يجب أن يتم سن التشريعات اللازمة وإعادة النظر بالقاصر منها وهذا لن يتم إلا في أجواء من التوافق الوطني بين مكونات المجتمع الأردني من موالاة ومعارضة وعلينا أن نفهم بأنه بالإمكان هندسة مجلس تشريعي مُطيع، ولكن هل بإمكان هكذا مجلس والذي سينبثق عنه حكومة تنفيذية من إحداث التغيير القانوني والإداري اللازمين للوصول إلى التخطيط الحضري المناسب للمدن الأردنية بما يقلل من فيضان التذمر الشعبي الأشد خطراً من فيضان السيول والعبارات والمناهل.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات