العالم في ثلاث طبعات


ساد العالم بعد الحرب العالمية الثانية نظام دولي قام على أساس ثنائي القطبية بين المعسكر الرأسمالي بزعامة أمريكا، والمعسكر الاشتراكي بزعامة الاتحاد السوفييتي، وعاش العالم ما اصطلح على تسميته الحرب بالحرب الباردة، التي كانت باردة في أمريكا وأوروبا ، ولكنها كانت حربا ساخنة شاملة خاضتها بالوكالة عنهما أنصار الطرفين في آسيا والشرق الأوسط وإفريقيا وأمريكا اللاتينية.
خرجت الولايات المتحدة من الحرب العالمية الثانية قرشا ابيض اكبر بكثير مما دخلتها، فاقتضى مجالا حيويا أوسع بكثير وعدوا دائما، فكان الاتحاد السوفييتي عدوا مناسبا لكن امتلاكه الأسلحة النووية جعله سمكة كبيرة لا يستطيع القرش الأمريكي ابتلاعها دون انفجارهما معا؛ لذا بدأت تطارد الشيوعيين باعتبارهم امتدادا للاتحاد السوفييتي، وخلال الفترة بين منتصف الخمسينات ونهاية الثمانينات امتدت الأذرع العسكرية والجاسوسية والدولارية للإمبراطورية أو الضاربين بسيفها وطاردت الشيوعيين في اندونيسيا وتشيلي والسلفادور ونيكاراغوا والعراق وإيران والأردن وغيرها، وضمت هذه الدول إلى مجالها الحيوي، وفي الوقت نفسه تحركت أبواق الدعاية ضد الشيوعية كمبدأ بهدف استئصالها من المجتمعات والعقول وضمت إلى الشيوعيين اليساريين ثم حركة عدم الانحياز، ثم الحركات الوطنية والقومية ثم كل من وقف في وجه أمريكا.
وخلال هذه الحقبة خاضت أمريكا أهم الحروب التي شهدها العالم وأهمها الحربان في كوريا وفيتنام، ووظفت الدين في حروب أخرى ، فخلال الاحتلال السوفييتي لأفغانستان نشا تحالف استراتيجي بين المقاومة الإسلامية ووكالة الاستخبارات المركزية لتنظيم التصدي للقوات السوفييتية، فصار الإعلام الأمريكي يتغنى ببطولة المجاهدين في أفغانستان ويتسابق لإجراء المقابلات معهم، حتى أن الرئيس الأمريكي رونالد ريغان أطلق عليهم المجاهدون من اجل الحرية.
وكان الإسلام حينها اكبر صديق لأمريكا عندما ساهم المجاهدون الأفغان والعرب بالحرب أو بالتمويل في هزيمة عدو أمريكا الأكبر الاتحاد السوفييتي، ولم ينتبه هؤلاء المجاهدين إلى أن زوال الاتحاد السوفييتي سيحمل أمريكا إلى قمة العالم عسكريا واقتصاديا، ولن يمر وقت طويل قبل أن يصبحوا أنفسهم حجر الدومينو التالي في اللعبة الأمريكية، لذا فإنهم يتحملون جزئيا على الأقل مسؤولية ما حدث لأفغانستان، فيما يتحمل العرب اللذين ساهموا في تمويلهم القدر نفسه من المسؤولية لما حدث في العراق ويحدث الآن في سوريا ، فخدم بعضهم الأهداف الأمريكية دون أن يدروا أحيانا وبالدراية والتخطيط أحايين أخرى.
وبتفكك الاتحاد السوفييتي عام 1991 انهار النظام الدولي ثنائي القطبية ، وأعلنت أمريكا نهاية التاريخ وانتصار النظام الرأسمالي بشقيه السياسي والاقتصادي، فبدأت العولمة لأمركة العالم وتفكيك هوياته الحضارية والثقافية، وتعميم اقتصاد السوق، بحيث تكون أمريكا مركز العالم الوحيد. وأمام نشوة الانتصار بدأت أمريكا في عهد المحافظين الجدد بما تملكه من فائض قوة مالي وعسكري لم يسبق لقوة أن امتلكته في التاريخ بتنفيذ خطتها الإمبراطورية للسيطرة على العالم، ومحاصرة القوى التي يمكن أن تشكل تهديدا لها وخاصة روسيا والصين.
إن معظم ما حققته أمريكا بين عامي 1991 و2003 كان حصاد ذراع واحدة من اذرع السيطرة هي العمل العسكري، فقصفت العراق عام 1991 وانتهت بإقامة قواعد عسكرية في السعودية والكويت والبحرين وعمان والإمارات، وقصفت يوغسلافيا عام 1999 فانتهت بإقامة قواعد عسكرية في كوسوفو وألبانيا وبلغاريا ومقدونيا والمجر والبوسنة وكرواتيا، وقصفت أفغانستان عام 2001 فانتهت بإقامة قواعد عسكرية في أفغانستان وباكستان وكازاخستان وأوزباكستان وطاجاكستان وقرغيزيا وجورجيا واليمن وجيبوتي، والملاحظ أن كل هذه القواعد موجودة في دول منتجة للنفط أو قريبة من دول نفطية.
مثل عام 2003 قمة الغطرسة الأمريكية فكان احتلال العراق بداية انهيار المشروع الإمبراطوري الأمريكي، لقد وجدت أمريكا نفسها في وضع سياسي وميداني عراقي يختلف تماما عندما حركت قواتها من القواعد العسكرية والدائمة في الكويت وقطر والسعودية لاحتلال عاصمة الخلافة العباسية.
وطبقا لخطط البنتاغون كان التصور أن الحكومة العراقية ستستكمل بناء الهياكل الدستورية والقانونية التي تضمن استمرار السيطرة الأمريكية لعدة عقود قادمة، نتيجة تطويع العراق سياسيا وعسكريا وإيداع من يقاوم الاحتلال السجون أو المقابر، وكان من المفترض أن ترفع الشركات الأمريكية والبريطانية ضخ النفط إلى نحو ستة ملايين برميل، والشروع في بناء خط أنابيب لنقل نفط كركوك عبر الأردن إلى حيفا لتغطية الاستهلاك الإسرائيلي، وتصدير الفائض إلى الأسواق الأمريكية والأوروبية عبر البحر المتوسط.
وبالرغم من أن الهدف الأمريكي من احتلال العراق لم يكن رفع سعر البترول بل العكس، أي رفع مستولى الإنتاج العراقي لخفض الأسعار، إلا أن الإخفاق الأمريكي وعدم قدرتها على السيطرة الميدانية تسبب في ارتفاع أسعار النفط عالميا إلى مستويات تاريخية، مما أتاح لروسيا وإيران وفنزويلا أكثر من ثلاثة أضعاف العائدات فبل احتلال العراق، وهكذا توافرت لروسيا فوائض مالية كبيرة ساعدتها على تسديد ديونها والخروج من الإفلاس والبدء ببرنامج كبير لإعادة بناء قوتها العسكرية التقليدية والنووية، وتوافرت لإيران مبالغ ضخمة استخدمت بعضها لمساندة حزب الله وفصائل المقاومة الفلسطينية، وتعزيز ترسانتها الحربية، وشراء تقنيات الصناعة النووية، فيما سارعت الصين لبناء قوتها العسكرية، وفتح الأبواب إلى اتفاقات النفط والصفقات التجارية في آسيا الوسطى وإفريقيا وأمريكا اللاتينية التي كانت تعتبرها الولايات المتحدة ساحتها الخلفية الدائمة.
عربيا كان من المفترض أن تكون القوات الإسرائيلية قد تمكنت من سحق مقاتلي حزب الله في جنوب لبنان، تزامنا مع ضرب القوات الأمريكية حصارا على سوريا من تركيا في الشمال والعراق من الشرق والأردن من الجنوب.
إقليميا كان من المفترض أن تكون أمريكا أحكمت طوقها حول إيران اعتمادا على قواعدها وقواتها عبر الحدود مع العراق إلى الغرب، ومن خلال انتشارها العسكري على الحدود الأفغانية والقواعد الأمريكية في تركيا وباكستان، وبعض جمهوريات آسيا الوسطى، إضافة إلى قواتها الضاربة الموجودة على حاملا ت الطائرات والسفن الحربية في الخليج العربي.
لقد أدى الإخفاق الأمريكي المدوي في العراق إلى انهيار هذه الإستراتيجية بأكملها، ومثلما أرادت أمريكا من حربها على العراق أن ترسل الرهبة في قلوب العالم، فلا يجرؤ احد على مجرد التفكير بالوقوف في طريقها، وهو ما وصل ذروته عام 2003، إلا أن المقاومة العراقية التي تحررت من هذا الخوف، حررت العالم من خوفه، فحلت اكبر هزيمة في تاريخ أمريكا.
ومثلما كان انسحاب القوات البريطانية من مصر أواخر عام 1956 بداية طريق انسحابها من الوطن العربي ومن نادي الإمبراطوريات، فان الانسحاب الأمريكي من العراق عام 2010 هو بداية خروجها من المنطقة وبداية الأفول لنظام أحادي القطبية الذي ساد العالم منذ عام 1991 وحتى الآن.
لقد شكلت الأزمة السورية حدثا سيدخل التاريخ على انه كان بداية ظهور نظام دولي جديد ، وإعادة هيكلة الإستراتيجية الدولية لتقوم على تعددية القوى العظمى في العالم، وقد حجزت عدة دول موقعها كأقطاب للنظام الدولي الجديد وفي مقدمتها إيران وروسيا والصين والهند والبرازيل، ليولد نظام دولي بطبعة جديدة.
إن القرن الحادي والعشرين الذي تصور الأمريكيون انه سيكون قرن سيطرة إمبراطوريتهم على العالم بلا منازع، سيكون قرن القوى التي اعترضت سبيل أمريكا في العالم.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات