عماد فاخوري .. ما له وما عليه


أول لقاء لي مع المهندس عماد الفاخوري كان في مكتب وزير العمل الأردني الأسبق/ أخي الكابتن محمد الكلالدة في صيف العام 2000 ودخل علينا يحمل حقيبة منتفخة بالملفات، وتجاذبنا أطراف الحديث وأخبرته بأني في زيارة للأردن لجمع معلومات تنقصني لإتمام أطروحة الدكتوراة التي كنت قد بدأت العمل عليها في النمسا والتي كان موضوعها عن التنمية الإقليمية. وقد بادر الشاب الدمث بالحديث عن مشروع إقامة منطقة العقبة الإقتصادية الخاصة التي تبناها دولة المهندس علي أبو الراغب وكان قد إختار الكابتن محمد لرئاستها لأسباب عدة من أهمها نظافة اليد والتخصص في العلوم البحرية والنجاح المتميز في إنشاء وإدارة شركات خاصة. وقد تطوع المهندس عماد وأعطاني وثائق هامة في هذا الموضوع إعدّتها شركة TSG عن المناطق الحرة والخاصة من منظور عالمي.
لقد كان واضحاً بأن دولة الرئيس أبو الراغب قد ترأس الحكومة وفي جعبته تصور إستراتيجي محدد للتنمية في الأردن والذي يختلف كلياً عن أي رئيس وزراء سابق ويتمثل في إطلاق الحرية التامة لإقتصاد السوق وحصر دور الدولة بالمهام الإشرافية وحصر الدعم الحكومي للناس في مجالات التعليم والصحة. وهذا نهج إقتصادي معروف في الدول الرأسمالية وكان من الواضح أنه قد حصل على الضوء الأخضر من جلالة الملك عبد الله الثاني لتطبيقه كما يجب. وليس من المستغرب بأن حكومة أبو الراغب كانت الأطول عمراً بين الحكومات الأردنية لدرجة جعلته يتندر عند سماع المناداة بإستقالة حكومته مداعباً خصومه بالقول: بعدنا ما تخرجنا ... في إشارة لمدة التعليم الجامعي التي تناهز أربع سنوات. وليس بغريب أن يصدر عن هذه الحكومة أكثر من 200 قانون مؤقت تقونن قناعات تخطيطية خلافية بغياب مجلس الأمة.
عماد، مع حفظ الألقاب، كان من نفس المدرسة الإقتصادية وسعى لتطبيق أفكاره التخطيطية على الأرض فإنحاز إلى اللامركزية المطلقة في التخطيط وهذا ما فعله كمفوّض لشؤون الإستثمار في العقبة الخاصة، فقد سعى إلى سلخ السلطة عن الوزارات بتوقيع مذكرات تفاهم يتم بموجبها تخويل الصلاحيات للسلطة فأصبحت السلطة دولة ضمن الدولة ولم يكن يُخفى رغبته الجامحه بتعميم الفكرة على كامل التراب الأردني فإنشئت المناطق التنموية وفقاً لهذا المبدأ وهنا حصل التناقض الذي سنتحدث عنه لاحقاً.
التقيه مرات عدة في العقبة في إطار عملي كمدير لمشروع إعادة تأهيل ميناء الركاب ممثلا لشركة سيجما، وقد تعرفت حينها على عماد فاخوري أثناء العمل فكان شُعلة من النشاط وصاحب قرارات فورية بمنظور إستراتيجي يخدم فِكره هو والداعي إلى تفكيك المؤسسات وإعادة تركيبها لتنسجم مع السائد من هذا النمط في مناطق كثيرة من العالم.
وليسامحني معاليه إن كنت أحمّله إنطباعي، ولكني أحاكي عماد كظاهرة كانت ولا زالت مستمرة وسيكون لقراراته الأثر الكبير على حاضر ومُستقبل الأردن، فمن حقنا أن نبُدي رأينا بها للتوثيق. كما قلت، لم يكن عماد من محبي التخطيط المركزي للدولة وهو الداعي لفكرة اللامركزية المطلقة في المناطق التنموية والخاصة ليحل ما يسمى بالمُطوّر مكان مؤسسات الدولة التقليدية، فمن هو المُطور Developer ؟
لقد سعى م. عماد منذ توليه كرسي مُفوّض الإستثمار لإستقطاب شركة عالمية عملاقة تقوم بإدارة المنطقة الخاصة من جميع النواحي عند طريق ضخ إستثمار في البنية التحتية والمطار والموانيء والإتصالات ويقوم المُطوّر ببيع أو تأجير الأراضي والخدمات للمستثمرين. بمعنى آخر، المطور هو (دولة خاصة) ضمن المملكة الأردنية الهاشمية. ولكن ماذا تستفيد الدولة المركزية من هذا الأمر، الجواب عند عماد فاخوري ومدرسته فيما يلي:
1. رفع العبء عن الدولة المثقلة بالديون بحيث تتوقف عن الصرف على إنشاء وتحديث البنية التحتية.
2. إضطلاع المُطوّر بمهام تحديث المطار والموانيء كونها تحتاج لمليارات تفتقدها الدولة.
3. الإستفادة من علاقات المُطور العالمية لإستقطاب مستثمرين للمنطقة، وبالتالي إنعاشها.
4. خلق فرص عمل بعشرات الآلاف يصعب على الدولة تشغيلهم في أجهزتها.
5. تغيير الشكل المعماري للمدينة الساحلية بما يتماشى مع مثيلاتها في العالم.
6. تسديد إيرادات سنوية متكررة من المُطور للدولة مقابل حقوق التطوير.
بمعنى آخر ولكي لا نظلم هذا النمط من الفكر التخطيطي (تضمين العقبة لمستثمر خاص) وهذا فكر غريب على الدولة الأردنية التي إتبعت نمط مغاير منذ تأسيس الإمارة في 1921. وصفنا لهذا النمط بالغريب ليس بقصد الإنتقاص منه، ولكن هذا الموضوع خلافي بين المخططين فمنهم من يرى أنه يصلح لدول كبرى مثل USA وكندا ولكنه لا يصلح حتى لدول أوروبية عريقة مثل ألمانيا وفرنسا، فما بالك بدولة نامية مثل الأردن يحكمها نظام نيابي ملكي يختلف عن النظام الإتحادي الأمريكي الذي تسود فيه نظرية اللامركزية الواسعة. إن المُطوّر يسعى إلى الربح السريع مما سيؤدي لتحويل جزء كبير جداً من العوائد إلى الخارج بالعملة الصعبة. ويجادل المؤمنين بهذا النهج ... وما الضرر في ذلك ما دام سيحقق لنا المُطور كل هذه المنافع. الجواب على ذلك بسيط وهو الخوف على السيادة الأردنية للدولة في منطقة حساسة من الأردن وهي المنفذ البحري الوحيد وله حدود برية وبحرية مع إسرائيل. ماذا لو أختلفت الدولة مع المُطوّر، فهل سيسمح لنا بالمرور في المناطق الخاضعة لسلطته وأذكر مثلاً عملياً على ذلك وهو الفهم الخلافي لإتفاقية مرسى زايد بتضمينها نصاً يُفهم منه منع دخول الشاحنات من خلال مشروعها، ولمن لا يعلم ذلك فإن البديل أمام الحكومة هو إنشاء طريق خلفي جديد لأن الطريق الحالي لا يخدم الشاحنات الحديثة بسبب درجة ميلان الطريق الكبيرة مما سيكلف الخزينة قرابة المليار دينار مقابل جهل أو كُهن عند تضمين هذا النص في الإتفاقية.
أعتقد جازماً بانه لا مجال للدولة الأردنية إلا بالتدخل في آليات السوق الرأسمالي وكما قالها جلالة الملك في لقاءه الأخير مع شباب من المعارضة بأنه يتبنى فكرة تدخل الدولة في مجالات الصحة والتعليم وليخبرني إذن مدير مكتب جلالته، من أين ستصرف الدولة على هذه الأعباء ما دامت ستصبح الشركات والأراضي والمؤسسات التي تدُر دخلا بيد المُطوّر، وهذا ما هو حاصل فعلاً الآن، حيث نقصت إيرادات ميناء العقبة والمطارات وشركة الفوسفات والكهرباء والبوتاس بدرجة واضحة، فمن أين سيأتي المال للخزينة يا معالي الوزير السابق ومن سيصرف على القوات المسلحة والدرك والأجهزة الأمنية، فهل سيرضى المُطوّر أن يتحملها.
لقد راجت في الغرب الفكرة الكنزية لصاحبها الاقتصادي البريطاني كينز John Maynard Keynes (1883-1946) والمنادية بان آلية السوق وحدها غير قادرة على ضمان التوظيف الكامل مما يستوجب تدخل الدولة لتوجيه النشاط الإستثماري. وقد تبنت دول رأسمالية معروفة مثل ألمانيا وبريطانيا وفرنسا فكرة التخطيط قبل وخلال وبعد الحرب العالمية الثانية وكان أوج هذا التبني الرأسمالي للتخطيط المركزي من خلال صياغة وتنفيذ خطة الولايات المتحدة الأمريكية لاعادة إعمار أوروبا والتي عرفت بمشروع مارشال، فهل يمكن تصور الأردن بدون تدخل حكومي في آليات السوق، أوليس الدعم الأخير بدل تحرير أسعار المشتقات النفطية والذي أستفاد منه ثلاثة أرباع الشعب الأردني بتدخل في آليات السوق؟
سؤالنا هو: هل قبل أي من المطوّرين العالميين ضمان العقبة الخاصة؟ والجواب هو لا ... وماذا فعلتم للخروج من هذا المأزق؟ لقد عدتم إلى جَمل المحامِل وهي الدولة الأردنية وأجريتم تعديلا على الفكرة بما ينسفها من الإساس وهو أن يكون المُطور حكومياً بدلاً من أن يكون من القطاع الخاص، فكانت ولادة شركة تطوير العقبة التي تستنزف مئات الملايين من الخزينة بدلاً من رفدها لها بالمال على أساس أنها (المُطوّر) ومن سخرية القدر بأن تحذو هيئة المناطق التنموية حذو العقبة الخاصة بتأسيسها شركات تطوير حكومية في كل من معان والبحر الميت وجبل عجلون والمفرق ... الخ بدلاً من إستقطاب مُطورين عالميين حسب ما يدعوا إليه المنطق.
وحتى في التفاصيل، وأثناء معالجة موضوع التداخل في مسار الشاحنات بين ميناء الحاويات ومحطة ركاب العقبة، تم إختيار الحل الذي سيمّكن ميناء الحاويات الذي يدار من قبل شركة APM العالمية من توسعة الرصيف بإتجاه الجنوب على الرغم من كونها منطقة حيد مرجان بحري عزَّ نظيره في العالم، علاوة على أنها منطقة محمية بموجب قانون البيئة. كما أن هذه التوسعة تتناقض مع فكرة الميناء المركزي الجديد في الجنوب حيث تم الحديث دوماً على وجوب تجميع عمليات الميناء في منطقة الجنوب لإفساح المجال للقطاع السياحي من النشاط في المنطقة الوسطى من الشاطيء. ألم يكن ميناء الحاويات ناجحاً تحت إدارة مؤسسة الموانيء وهل لنا أن نعرف كم يورّد إلى الخزينة من أموال في ظل الإدارة الأجنبية؟
إن المتتبع لفكرة منطقة العقبة الإقتصادية الخاصة يشعر بالقلق على مستقبل المدينة كونها خرجت عن الفكرة الرئيسية عند تأسيسها في أيار 2001. هذا يدل على أن فكرة تمكين الشركات الأجنبية تسيطر على تفكيره. سالت م. عماد في يوم ما لا أذكره في العام 2005، لماذا تُصرّْ على نقل ميناء العقبة ... سَكتَ للحظات وقال: هناك أفضل، وكان يقصد الموقع الجديد في جنوب العقبة، وهذه وجهة نظر تخطيطية نحترمها ولكننا نختلف معها لكلفتها العالية ولعدم ثبوت صلاحية الموقع من حيث المساحة والملاحة حسب رأي خبراء بحريين دوليين، وأين وصل مشروع الميناء ولم يبقى على موعد تسليم الأراضي لشركة المعبر الدولية سوى أشهر قليلة وهل ينص عقد البيع على دفع أجرة إستخدام موقع الميناء الحالي؟
إن التخطيط هو نشاط ذهني مقصود يهدف لتحقيق حاجة جسدية أو روحية آنية أو مستقبلية لفرد أو لمجموعة من الأفراد خلال فترة زمنية محددة وبكلفة معينة. وبناءاً على هذا التعريف فإن نقل ميناء العقبة قد يكون الحل الأمثل ولكنه ليس الحل الأنسب، لكونه يحمّل الأردن أكثر بكثير من طاقتها. أما كان من المُمكن الإبقاء على الميناء في مكانه وتخصيص المنطقة الجنوبية للفنادق والقصور الشاطئية الفارهة التي لن يقدر أكثر من 1% من الأردنيين دخولها.
في الخلاصة، معالي عماد فاخوري طاقة كبيرة أسهم كثيراً في تحريك العملية التنموية في الأردن وهذا مما يحسب له، أما ما يُوخذ عليه، وهو شخصية عامّه يجدر تقييم عملها، فهو الإصرار على تطبيق ما يؤمن به هو بدون الإلتفات إلى ما يؤمن به الآخرين. عزيزنا معالي عماد بيك: قرُبك من جلالة الملك يجعلنا نخشى من ترويج فكرة المُطوّر الأجنبي لتشمل كافة مناطق المملكة.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات