محمد البدور والعزف على أوتار مقطوعة


لكل من الأطفال مثله الأعلى فهو مسكون فيه يراقب حركاته ويستمع إليه بشغف ويتمنى أن يصبح يوما ما مثله أو مِثلها. وبعض الأخوة يرتبطون ببعضهم البعض أكثر من سواهم، فوالدتي المرحومة أم خالد كانت متعلقة بأخيها الأصغر (مُحمد) لدرجه الهوس ولقد كانت تحبه وأنا كنت أحبها وأحب كل ما تُحبْ ومن تُحبْ.
لقد كنا في عمّان أقرب إلى العالم من أهلنا في الطفيلة مما ساعد في تسهيل إقامة بعض الأعزاء للحصول على شهادة المترك الأردنية من كلية الحسين. لقد كان الأردن في الخمسينات من القرن المنصرم يحبو في محيط مليء بالكبار ولم تكن السيدة الأولى قد ولدت بعد، الجامعة الأردنية التي نحتفل بعيد ميلادها الخمسين هذه الأيام، فكان على شبابنا السفر إلى أم الدنيا مصر ومنها الإنطلاق إلى فضاء العالم الرحب. وكان على الطلبة الراغبين بالدراسة في مصر تقديم التوجيهي المصري للتمكن من دخول الجامعة هناك. لقد سافر الخال محمد إلى القاهرة في 30/9/1956 أي قبل العدوان الثلاثي على مصر بأسابيع قليلة بعد أن قام جمال عبد الناصر بتأميم قناة السويس. والتهبت مشاعره كما الشباب العربي وأصبحوا متظاهرين منددين بالعدوان ونَظمَ بذلك أبياتاً من الشعر يذكر منها:
مصرُ العزيزةُ هل تلين لغاصب ... كلا، جماجمنا لها أسوارُ
بعد قضاء قرابة السنتين في كلية الآداب بجامعة القاهرة غادرها مُحمد مكرهاً في نيسان 1959 على ظهر سفينة يونانية إلى بيروت ومنها سافر إلى بغداد لإكمال دراستة في الاداب إلى أن تمكن الأخ الأكبر النطاسي البارع الدكتور جميل البدور، أطال الله في عمره، من سَحب أخية الأصغر محمد للدراسة معه في ألمانيا. وصل فايمار Weimar في أب 1960 لتلقي العلم والمعرفة وما أن أنهى البكالوريوس في الهندسة المعمارية عاد إلى حيث يجب، إلى الأردن، وتصادف ذلك مع ذكرى ميلادي الرابع بتاريخ 27/6/1966. لقد أصبح مثلي الأعلى وقررت أن أتّبعَ خُطاه فدرست في كلية الحسين التي منها تخج، وسافرت إلى نفس البلد التي إليها ذهب، والتحقت بنفس الجامعة التي فيها درس، وأخترت نفس الفرع الذي فيه تخصص. وفي فايمار، مدينة الفن والأدب جلس إبن الطفيلة على مقاعد الدراسة وجلست أنا عليها بعد عشرين سنة وسُألت عنه فور معرفة الأساتذة بأني قادم من الأردن. لم يكن شخصاً عادياً مرَّ عليهم لينسوه فقد كان متفوقاً، متأنقاً ومتعففاً جداً لدرجة سهّلت دراستي هناك لأني من رائحة هذا الإنسان العظيم. ولا انسى كلام صديقه البروفيسور (أوسكار بتنر) حين أشار إليَّ ونحن في مدرّج مليء بالطلبة نستمع لمحاضرة في إنشاء المباني بأن هذا الطالب من الأردن ودرَّست خاله الذي لا يُنسى وهم أبناء حضارة عربية عريقة عندما كنا نحن نعيش في كهوف أوروبا. عرّشت فلم أعد نكره بين ألمان كُثر، فعندي من الأهل من يُعتزُّ بهم ولنا من التاريخ ما يُعتدُّ به.
لقد عمل أبو عمر في مؤسسة الإسكان وفي القطاع الخاص وصمّمَّ أجمل مبانيها وظلَّ مسكوناً بهمها الوطني عاتبا على الفجوة بين ما هو مبني من الحجر وما هو مُحطم في البشر، فهو القائل في عمّان بعد هبة نيسان 1989:
جفَّ وادي الشتا جفّتْ منابعه ....... فليس واديكَ يا أردنُّ وادينا
وسهلُ حوران ما أخضرّتْ سنابله ....... مُذ أمعن الرَبعُ حرثاً في أراضينا
ونجمةُ الصبحِ غابت عن بيادرنا ....... ويعلم اللهُ كم أنّتْ بوادينا
وزعترُ الغورِ مُرّ في حناجرنا ....... وأصبح الخبز من أغلى أمانينا
كأنَّ عمّان ما كانت لنا أبداً ....... لا نحن منها ولا من دمهّا فينا
ولا تمخترَّ في حاراتها قمرٌ ....... كنا نناجيه حيناً أو يناجينا
فالدار داران يا ويلي فواحدةٌ ...... للطامعين وأخرى للمحبينا
والطامعون لهم دار مدللةٌ ....... والعاشقون لها أضحوا مساجينا
فليشرب الغير من راحاتها عسلاً ....... ويشرب الشعبُ من قيعانها طينا

لقد كان وسيماً جداً وأنيقاً جداً ومحباً جداً ودقيقاً جداً لدرجة أن تضبط الساعة على الموعد الذي يحدد اللقاء فيه، فيكون في ذات الموعد حتى لو حضر مبكراً أنتظر أمام الباب ليقرعه في الدقيقة المتفق عليها.
كم تألم أبو عمر لغياب الديمقراطية عن الأردن ردحاً طويلا من الزمن وكم تأثر بهبة نيسان لأنها حرّكت فيه أمواج الحرية التي لطالما نادى بها وتأثر كثيراً لملاحقة الشباب الوطني الأردني بعد هبة نيسان 1989 فقد كان من ضمنهم إبن أخته الدكتور خالد الكلالدة والذي خاطبه من خلف قضبان سجن السواقة بهذه الأبيات المؤثرة:
لكَ المحبةُ إن حلَّوا وإن رحلوا ....... فدربُكَ النصرُ أما دربُهُم فَشَل
لكَ المحبةُ إن طالتْ وإن قَصُرتْ ....... سودُ الليالي فهذا الليلُ مرتحِلُ
تعانقُ السجنَ والقضبانَ مُبتسماً ....... حتى تطيّر من بَسْماتِكَ الهملُ
تعانقُ السجنَ والفئرانُ قابعةٌ ....... حولَ الدولار تناجيه وتبتهلُ
أما الصراصيرُ لا زالتْ مُبرطعَةً ...... بين المجاري تُشمْشمُها وتَحْتَفلُ
يا صاحبَ السجن إن السجنَ مَفخَرةٌ ....... لصاحب الفكرِ حتى لو هُمو جهلوا
فكم سجينٍ مدى الدنيا عوالمُهُ ....... وكم طَليقٍ بدار الذّل مُعتَقلُ
يا صاحبَ السجن هذي الكأسُ طافحةٌ ....... فكيف يخجّلُ من عادَاهُمُ الخَجَلُ
لقد تسآئل أبو عمر عن المشترك بين الشعر والهندسة وأجاب على هذا السؤال بنفسه حين قال: إن عملية التصميم المعماري تشبه كثيراً عملية نظم الشعر، فالمعماري ينطلق من فكرة أي (موضوع) لتحقيق غاية ويترجم هذه الفكرة على الورق بإستعمال (الوسيلة) وهي الخطوط، ثم يبدأ في إضافة بعض الخطوط أو إلغاء بعض منها، أو نقل خط مكان آخر حتى تولد الفكرة المعمارية. في تجربته هذه يظل ملتزماً بمباديء فنية هندسية لا يستطيع تجاوزها، وهكذا يمارس الشاعر عملية نظم القصيدة، فهناك الفكرة التي تترجم بواسطة الوسيلة (الكلمة) إلى صور ...
العمارة فن أكثر منها تقنية وللعمارة روادها ومنهم المهندس محمد البدور الذي ترك بصماته في مباني الأردن وترك كلاماً في فضاء الشعر وترك الدنيا غير مأسوف عليها لوصفه الموت بالأبيات التالية:
هو الموت آتٍ ...
فلا تدفنوني قُبيلَ الغروبْ ...
ولا تدفنوني قُبيل الشروقْ ...
ولا تذرفوا فوق قبري الدموعْ ...
وقولوا قضى ... وأنقضى ...
وما فاتَ ... ماتْ ...
وكانوا ... وكانْ ...
صدى للزمانْ ...
لأنه ترك ما ترك وما أجمل ما ترك ... سيرة عطرة وذكر حسن، فرحمه الله عليك يا من نشرت ديوانك الشعري بعنوان لم يكن بعيداً عن نضالك لأردن أفضل، ولكن يبدو أنه كان عزفاً على أوتار مقطوعة.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات