حول مقومات الامن وضروراته


الامن يضاهي الماء الذي قيل انه ارخص موجود واثمن مفقود، او يماثل الصحة التي قيل انها تاج على رؤوس الاصحاء لا يراه الا المرضى.. فالامن نعمة كبرى لا يشعر المرء بقيمتها واهميتها الا حين يفقدها، ذلك لانه يشكل القاعدة الاساس والمرتكز الضروري لسائر العلاقات والنشاطات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ناهيك عن كونه حاجة بشرية تاريخية سعى الانسان اليها منذ اقدم العصور، وحرص على ادامتها ما استطاع الى ذلك سبيلاً.

للامن عدة اركان وابعاد ومكونات، فهو ينطوي على منظومة شاملة ومتكاملة من العناصر والعوامل والروافد التي من شأن تضافرها وتفاعلها معاً، توفير الموادعة والطمأنينة والاستقرار والسلام الاجتماعي والانتظام القانوني في سائر العلاقات والمعاملات التي تتعلق بالجبهة الداخلية.. اما على الصعيد الخارجي فلعل ابرز واهم المسؤوليات الامنية هي صد المؤامرات، ومنع الاختراقات والتدخلات الاجنبية.

ورغم ان الاجهزة الامنية والعسكرية هي صاحبة المسؤولية الاولى في حماية امن الوطن، داخلياً وخارجياً، الا ان مفهوم الامن الوطني الشامل يتعداها الى غيرها من القطاعات الرسمية والاهلية التي يتعين ان تنهض بادوار ومهمات ونشاطات متنوعة، وسط ميادين وحقول ومجالات متعددة، بغية التكامل مع مجهودات اجهزة الامن المختصة، واغلاق الدائرة الامنية من جميع جوانبها.

طبعاً، لا جدال في اهمية دور الاجهزة الامنية السرية والعلنية، وفي ضرورة وجودها الدائم وحضورها القوي ما دامت تعمل في حدود اختصاصاتها.. ذلك لان الحروب في عالم اليوم غالباً ما تدور في نطاق >القوة الناعمةحصان طروادة في تجنيد قوى وعناصر عميلة لضرب معسكر الخصم من داخله، بدل الهجوم عليه من الخارج.

كل دول العالم تحرص على اجهزتها الامنية، وتسعى لتعزيز قوتها ورفع سويتها، ولكن شتان بين اجهزة منضبطة تعمل تحت سقف القانون، وتجهد ليل نهار لصون الوطن وحماية المواطن وخدمة الصالح العام، وبين اجهزة قمعية وتعسفية تصادر الحريات، وتلاحق المعارضين، وتستبيح الحقوق والحرمات، وتتغول على البلاد والعباد، وتتسبب بالتالي، ومن حيث تقصد او لا تقصد، في اشاعة الظلم، وتهييج المشاعر العامة، واضعاف الانتماء الوطني، ومضاعفة السخط الشعبي، وتوسيع شقة الخلاف والمباعدة بين الحاكم والمحكوم.. الامر الذي يؤدي، في المحصلة، الى خلخلة اوتاد الامن وتقويض اركانه، وليس العكس.

لاستكمال الامن الاستخباري والمهني، يتعين الاهتمام باصناف اخرى تنتمي للمنظومة الامنية، اهمها الامن السياسي، والامن الثقافي، والامن الاقتصادي والاجتماعي، فليس بالفعل الاستخباري والبوليسي وحده يتحقق الامن والسكينة والسلم الاهلي والتراضي العام، بل لا بد من رفدها بالكثير من المفاعيل والمعطيات الاضافية التي من شأنها توسيع نطاق الامن، وتعزيز ثقافته، وتوفير القناعة الجماعية بضرورة حمايته وادامته ما دام يصب في صالح الجميع.

سياسياً، قد يتحقق الهدوء والامن والاستقرار بالقهر والاكراه، ولكنه امن فوقي وظاهري زائف ومؤقت مهما طال امده، بينما الامن السياسي الحقيقي يتطلب قواعد اخرى وشروطاً مختلفة، ابرزها ضمان السيادة والاستقلال والشخصية الوطنية، والحريات العامة، والحياة الديموقراطية، والحاكمية الدستورية والقانونية، والشرعية التعاقدية بين الحاكمين والمحكومين.

لا بقاء او دوام للامن السياسي تحت سقوف التبعية، والتفريط في السيادة والاستقلال، والانتقاص من حريات المواطنين وحقوقهم، والاستئثار بالسلطة والحكم وصناعة القرار، والتفريق بين الناس تبعاً للدين او الجنس او الاصل والفصل، والزج بالبلاد والعباد في اتون معارك ومحاور وتحالفات معاكسة لارادة الاغلبية الشعبية، ودواعي المصلحة الوطنية.

اما الامن الاقتصادي والاجتماعي، فلا يتوطد او يتأكد الا من خلال الاكتفاء الاقتصادي، والعدل الاجتماعي، نظراً لان الفقر والبطالة والفساد والغلاء والتفاوت الطبقي، هي من اعدى اعداء الامن، ومن اهم اسباب التمرد والثورة والانفلات، ومن اقوى مبررات خروج الرعية على الراعي.. فالجوع كافر، والشعوب التي لا تجد ما تأكله لن تستطيع منع انفسها من افتراس حكامها.

لقد علمنا التاريخ ان اشرس الثورات والانقلابات والاضطرابات قد وقعت، او اندلعت، لاسباب اقتصادية حتى وان لبست لبوساً سياسية او ايديولوجية، ولعل اوضح مثال على الثورات السياسية المدججة بالمضامين الاقتصادية، ثورة الشعب الفرنسي المجيدة التي انفجرت عام 1789 اثر دعوة الامبراطورة ماري انطوانيت الجياع المتظاهرين حول القصر الامبراطوري بأكل البسكويت ما داموا لا يجدون الخبز.

وعليه، ففي العالم النامي عموماً، والعالم العربي تحديداً، لا بديل عن دور الدولة والقطاع العام في الاضطلاع بمهمات التنمية الاقتصادية والرعاية الاجتماعية، وقد كذب الليبراليون الجدد حد التضليل حين زعموا ان الخصخصة واللغوصة وتمكين القطاع الخاص، وتشريد الطبقة الوسطى، وانسحاب الدولة من مسؤولياتها الخدمية والرعوية، هي الحل.. فيما كانت دول كبرى مثل امريكا وبريطانيا تهيلان التراب على المناهج الريغانية والتاتشرية في العمل الاقتصادي والاجتماعي.

اما الامن الثقافي فقد فرض ذاته بقوة في الآونة الاخيرة، واكتسب اهمية اضافية على مدى العالم العربي الذي تعرض، منذ نحو عامين، الى عاصفة >الربيع العربي< التي ادت الى خلط الحابل بالنابل.. وبصرف النظر عن التقييم السلبي او الايجابي لهذه العاصفة، فالثابت انها قد شجعت على سفك الدماء، وشق الصفوف، وكسر المحرمات، ونشر ثقافة الكراهية، وضرب ركائز الامن والاستقرار في معظم الاقطار العربية التي باتت تعاني من الانفلات الداخلي، والانكشاف الخارجي، والضعف في مؤسسات الدولة وهيبتها وسلطتها.

غير ان الاخطر من كل ما تقدم، هو تشويه الوعي الجمعي، وتلفيق الفتاوى السوداء، واستحداث ظاهرة الذبح وثقافة السكاكين، واستحضار حروب الطوائف والمذاهب الغابرة، وتسلل الافكار الوهابية والتكفيرية والارهابية الى معظم الساحات العربية، واستيقاظ المشاعر والغرائز العرقية والقبلية والمذهبية والجهوية التي لا تهدد مركزية الدولة فحسب، بل تقود ايضاً الى تفكيك المجتمعات، وتسعير خلافاتها، ونسف مكونات امنها وتعايشها.

من هنا تبرز اهمية الامن الثقافي، وضرورة التصدي بكل حزم وعزم للطروحات والافكار والممارسات القندهارية والانتحارية والهمجية المنافية للعقل، والغريبة عن روح العصر، والمتصادمة مع ابسط قواعد التفكير الحر والحياة المدنية والمكتسبات الحضارية والتطلعات المستقبلية لسائر الشعوب العربية !!!



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات