نوستالجيا


لن تصدقوا من زارني في عيد الأضحى ... طويل جِسمة وجبر إسمه، مين هو. نعم، لقد رنّ جرس الهاتف الأرضي الذي يندر إستعماله هذه الأيام وقال لي كيفك، بعدك بتربي حمام. هناك تفاصيل لا يعرفها إلا المقربين وجبر كان واحد منهم. قلت: لا فقد حوّلت إلى العصافير فالحَمام غلبة وكبرنا على هالشغلة يا جبر. ضحك المنحوس وقال، كيف عرفنتي. جاوبته من الخنَف (وهو إختلال في مخارج الصوت بسبب اللحمية في الأنف) ضحِك جبر وقال، بعَدك متذِكر، آه كيف لعاد، وهو في كم جبر في حياتي.
من أين لك برقمي، سألته، فأجاب من 1212 الإستعلامات يا إنسان. لقد كان الوحيد الذي يناديني يا إنسان والله أنه بيفهم. أعطيته وصف البيت وما هي إلا ساعة وشوية وكان عند الباب. أخذنا بعضنا بالأحضان ومسكني من يدي اليمنى وقال لي، في مشوار بنروحة سوا قبل ما ندخل عالبيت. كنت أثق به واتبعه دون تفكير، وركبنا السيارة وشرّقنا. الطريق كانت شبه فارغة وما هي إلا عشرين دقيقة حتى دخلنا مقبرة أم الحيران. كان عارف الطريق بالشبر وقال لي أنا معلّمه عند مقبرة آل تيف. مشينا بين القبور وكان يحمل معه مطرة ماء. وما أن وصلنا إلى القبر، حتى قال لي هذا قبر أبو جبر بتذّكره مش هيك. آه كيف لعاد ما أنا أكبر منك بسنة وما بنسى كيف كان معجوق بإلصاق الشبابيك وصبغها بالنيلة أيام حرب الأيام الستة حتى يحمينا. وقد لاحظت بأن تاريخ الوفاة هو 15 حزيران 1967 قد دون حفراً على شاهد القبر أي بعد إنتهاء الحرب بخمسة أيام. أزال جبر بيده بعض من الزرع الناشف من على القبر وسكب الماء في جرة الماء المنحوتة على الشاهد لتشرب العصافير وتظل تحوم حول قبر أبيه توّنسه وتنقل إليه الأخبار. ووقفنا بإحترام وقرئنا الفاتحة بصوت مسموع.
لماذا ذكرتني يا جبر بالحَمام، الأنه يعيش أزواجاّ ويظل وفياً لشريكه على الدوام، أم لأن ذكَر الحَمام يبني عشة قشة قشة بجد وإجتهاد ويحث أنثاه على وضع البيض ليتناوب معها الرقود عليه، وحين تفقس يُطعم صِغاره من فمه ويظل يحرسها حتى تطل برأسها من العش لتخطوا أولى خطواتها. آه ما أجمل تلك اللحظات التي يداوم فيها زوج الحَمام على تعليم فراخه الطيران بالتدرج وعندما يشعر بأن الوقت قد حان يطلق العنان لجناحيه متقدما أبناءه في حركة بهلونية من الحافة نحو الحرش ومنه إلى الأعلى نحو جبل اللويبدة. نعم، يتقدم الأبوين أبناءهم ويتبعوهم ليطيرو سوية في تشكيل متناغم طلقاء سعداء في فضاءات عمّان. وكأن مغناطيساً يظل يجذبهم إلى الدار مهما ابتعدوا. دورة حياة رائعة استحَق فيه الحَمام أن يكون رمزاً للسلام. فماذا لو يستطيع أحد الطيرين أن يُكمل دورته، ماذا سيحل بالفِراخ التي تنتظر أن تتعلم الطيران لترى عمّان من علٍ.
لماذا إختار جبر أن يذهب بي إلى المقبرة في أول لقاء لنا منذ ثلاثين سنة ... لم أسئله ولكني ذهبت معه بدون نقاش ولربما لأن أحدهم كان يُنادي الماضي فينا، فهل ذهَب الذين نُحبهم دون أن يُعّلمونا الطيران، فمارسناه عن طريق التجربة والخطأ... وظل الحنين ينخُر فينا محاولاً الإجابة عن السؤال: ماذا لو كنّا تعلمنا الطيران على أصوله ...



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات