الأقاليم .. طموح ومحاذير ( 1/2)!!


بشر جلالة الملك عبد الله الثاني المواطنين بأن الإصلاح السياسي والإداري قادم وأنهم سيلمسون قريبا  خيرات اللامركزية والحكم المحلي.

جاء ذلك في زيارته يوم امس الاول لمادبا التي افتتح فيها حزمة من المشاريع التنموية ودشن فيها إطلاق المخطط الشمولي لمادبا، حيث أعلن أن تلك المحافظة الفسيفسائية الجميلة ستكون نقطة  التوطئة لمشروع الأقاليم، حيث ستباشر الحكومة دراسة التجربة الرائدة انطلاقا من تطبيقها في مادبا على مستوى المحافظة وعبر إجراء حوارات مكثفة مع كافة الشرائح المعنية.

قد يتساءل البعض : لماذا مادبا؟ وقد يجبيهم آخرون لأن مادبا تلخص الأردن ففيها يلتقي الماضي مع الحاضر والمستقبل وتعانق الأصالة الحداثة ، وتحتضن تربة التاريخ بذور المدنية والحضارة....مادبا  تمثل في تضاريسها وطبيعتها وتركيب سكانها كل الوطن ففيها تعايش رائع بين المسلمين والمسيحيين وفيها تنوع جغرافي في التضاريس وتنوع اجتماعي بين البادية والريف والمدينة، وتنوع ديموغرافي بين سكان المخيمات والخيام والدور، وتنوع اقتصادي بين الفقر والغني إذ تطل برأسها على أثرى مناطق عمان ثم تشيح بوجهها نحو جيوب الفقر في المملكة.

نجاح التجربة في مادبا يعني نجاحها في باقي مناطق الوطن، خاصة وأن معظم سكانها مسيسون ، كما أن كثيرين منهم اليوم يحملون الشهادة الجامعية الأولى كحد أدنى، ورغم الفقر المدقع في بعض أحياء المحافظة الذي تقابله سهول خصبة تنبسط على مد البصر تكفي لإطعام نصف المملكة إن أحسن استغلالها وقدمت الدولة لمزارعيها الدعم المطلوب، إلا أنها المحافظة الوحيدة التي قدمت نائبة للبرلمان في الانتخابات الماضية نجحت بالتنافس وليس بالكوتا، وهي واحدة من المحافظات التي ما زالت تفرز نوابا سياسيين لا نواب خدمات فحسب، كما أنها تملك عددا من الإذاعات المحلية والمختصة، وهو ما يعكس تطورا فكريا وحضاريا وثقافيا لدى سكانها يعكس في تنوعه وخصوبته مجتمعه الأكبر في عموم الأردن.

يوم السبت الماضي عقد مركز الرأي للدراسات ندوة حول الأقاليم أدارها الزميل الإعلامي المميز الدكتور خالد الشقران بحضور الزميل المخضرم ذي القامة الإعلامية الفارعة الأستاذ عبد الله العتوم مدير المركز.

شارك في الندوة حشد من المعنيين على رأسهم بعض أعضاء اللجنة الملكية التي كلفت بإعادة النظر في التقسيمات الإدارية في المملكة، والمسماة مجازا بلجنة تطوير الأقاليم ونائب رئيس مجلس النواب وعدد من الوزراء والنواب والأمناء العامين للوزارات المعنية والباحثين والإعلاميين وأساتذة الجامعات.

بعد ساعتين من الحوار طلب الإعلاميون من العين والوزير السابق السيد عقل بلتاجي عضو اللجنة الملكية لتطوير الأقاليم نسخة من توصيات اللجنة التي رغم صدورها في عام 2005 لم تطلع عليها أي من فاعليات المجتمع المدني ووسائل الإعلام، ولم  يتخذ بشأنها أي إجراء واضح حتى اللحظة وتم الاكتفاء بوضعها في الدرج الواسع إلى جوار أخوات لها سبقنها في لجان ومشاريع أخرى تختلف في المسميات وتتفق في الأهداف.

ولأن العين بلتاجي رجل منفتح على الإعلام بحكم تاريخه المهني الطويل وخدمته في أكثر من موقع ويؤمن بأن المشاريع لا يمكن مناقشتها في الظلمة ، فقد وعد الإعلاميين بالإفراج عن التوصيات بالفعل، رغم أنها ما زالت تحمل كلمة سري ومكتوم على رأس الصفحة، ولكنه ما أن خرج من الندوة حتى انهالت عليه مكالمات هاتفية من مسؤولين في جهات عليا تطالبه بعدم تزويد الإعلام بتوصيات اللجنة، فتراجع . ولأن الندوة كلها لم تناقش تلك التوصيات بشكل مباشر، كما أنها لم تناقش المشاريع البديلة التي يحملها البعض ممن حضروا الندوة، فقد تحولت  إلى عصف فكري حول الفكرة وليس حول المشروع في ظل غياب طرح مادي واقعي كان يفترض عرضه على الطاولة ثم مناقشته بندا بندا لتكوين صورة أوسع وأوضح  تعكس انطباعات النخب السياسية والإعلامية والحكومية والنيابية تجاه المشروع بما يخدم غايات تطويره التي تصب في الحصيلة في التنمية المجتمعية المطلوبة للوطن.

المفارقة أن صحيفة الرأي ذاتها أجرت قبل أيام لقاء نشر يوم أمس الأول مع وزير الشؤون البلدية تحدث فيه عن مشروع الاقاليم بالتفصيل وأشار إلى معظم مخرجات اللجنة الملكية بأريحية ودونما حذر أو تعقيدات، وهو ما ساعد المواطنين والإعلاميين والنخب المسيسة على تشكيل فهم لا بأس به للمشروع ومحاولة تمثله وهضمه واستيعابه.

المشروع  حسب اقتراحات اللجنة الملكية - وهي مجرد اقتراحات حتى اللحظة قابلة للتعديل والتغيير والتطوير- يتلخص في إقامة ثلاثة أقاليم عرضية هي إقليم الشمال الذي اقترحت تسميته بـ "اليرموك"، وإقليم الوسط واقترحت تسميته بـ "رغدان"، وإقليم الجنوب الذي اقترحت تسميته بـ " مؤتة".

يضم كل إقليم أربع محافظات هي إربد وجرش وعجلون والمفرق بالنسبة لإقليم الشمال، ويكون مركزه مدينة إربد، والزرقاء والبلقاء ومادبا ومحافظة العاصمة باستثناء أمانة عمان الكبرى بالنسبة لإقليم الوسط ويكون مركزه مدينة السلط، والكرك والطفيلة ومعان والعقبة بالنسبة لإقيم الجنوب ويكون مركزه مدينة الكرك، مع مراعاة أحكام سلطتي إقليمي العقبة والبتراء باعتبارهما مناطق تنموية خاصة.

يكون لكل إقليم مجلس محلي منتخب بواقع عشرة أفراد من كل محافظة يشكلون في مجموعهم أربعين فردا منتخبا بآليات الانتخاب العام والسري والمباشر، يضاف إليهم فرد واحد يعينه مجلس الوزراء لكل محافظة ليكون عضوا في المجلس المحلي بواقع أربعة على الأقل معينين ضمن مجلس الإقليم.

يتم انتخاب رئيس مجلس الإقليم ونائبه ومساعدين اثنين له انتخابا داخليا بين أفراد المجلس، ويعين مجلس الوزراء لكل إقليم مفوضا عاما برتبة وزير يرتبط إداريا برئيس الوزراء، ويحدد النظام اختصاصاته.

يشكل في كل إقليم مكتب تنفيذي يراسه المفوض العام للإقليم، ويتولى الإشراف على إدارة الأجهزة الرسمية في الإقليم ومراقبة عملها، وإعداد الخطط الاقتصادية والاجتماعية، وعرضها على المجلس المحلي لاتخاذ القرار المناسب بشأنها ضمن الخطة العامة للدولة، بالإضافة إلى المهام والصلاحيات الأخرى المحددة في النظام.

هذه الرؤية ليست نهائية، بل هي مقترحات اجتهدت في تقديمها اللجنة، وهناك مقترحات أخرى تختلف معها بشأن التقسيم وهل يكون عرضيا أم طوليا، حيث يقترح البعض إضافة إقليم للبادية يضم البادية من شمال المملكة إلى جنوبها من جهة الشرق، وإقليم آخر للأغوار في الغرب، وفي الوقت الذي يراعي فيه التقسيم الذي اقترحته اللجنة الملكية تعددية الطبيعة الجغرافية والخصائص الديموغرافية و الموارد الطبيعية ضمن كل إقليم ، فإن التقسيم الثاني يأخذ في اعتباره خصائص مشتركة لسكان تجمعهم طبيعة جغرافية واحدة في بعض مناطق المملكة مثل البادية والأغوار، ولكنه يخاطر في الوقت ذاته بالمساهمة في مزيد من العزل الاجتماعي لسكان تلك المناطق وتعميق الهويات الفرعية لديهم على حساب الهوية الوطنية الموحدة، وهو ما تجنبته اللجنة الملكية باقتراح التقسيم العرضي الذي يحافظ على هوية وطنية جامعة وموحٌّـِدة، ومن ثم فإن مسألة التقسيم وعدد الأقاليم وكيفية اختيارها تبقى موضعا للجدل، وإن كانت رؤية اللجنة الملكية تبقى الأقرب إلى فهم منطق وروح الدولة الأردنية.

وبعيدا عن مسألة التقسيم والمنطق الذي تستند إليه، فإن هناك عددا من الأسئلة التي تطرح نفسها في مشروع الأقاليم نلخصها فيما يلي:

1.    ما هي الأهداف قصيرة ومتوسطة وبعيدة المدى من مشروع الأقاليم؟ هل هي إدارية تنموية اقتصادية خدمية فقط تسعى إلى تحقيق تنمية أوسع في المناطق التي تسمى بالأقل حظا وتلك التي ما زالت تشكو من تدني مستوى الخدمات وعدم تكافؤ الفرص وعدم عدالة توزع مكتسبات التنمية تحت شعار الإدارة اللامركزية بعيدا عن العاصمة عمان وحكومتها المركزية، أم أنها خطوة أولى على الطريق لتحقيق أهداف أوسع ترتقي من اللامركزية إلى إطار الحكم الذاتي المحلي على غرار دول أخرى مثل العراق الحديث أو ماليزيا أو البرازيل أو بريطانيا أو الولايات المتحدة الأمريكية أو الهند أو نيجيريا أو غيرها؟

 إن كانت الأهداف تنموية فقط وإن كانت محصورة في اللامركزية الإدارية فقط، فهذا أقل من الطموح، لأن الأساس في فكرة الأقاليم أن تنتهي إلى حكم محلي، وقد ينتهي هذا الشكل من الممارسة المجزوءة إلى إعادة إنتاج للمركزية بعيدا عن المركز، خاصة حين نرى أن المفوض معين ومدير المكتب التنفيذي معين، وهو ما يثير التساؤلات حول حقيقة دور مجلس الإقليم ورئيسه ونائبيه ومساعديه وأعضائه، فهل هم مشاركون حقيقيون في صنع القرار أم مجرد أدوات تجميلية جديدة بكلفة عالية؟ وهل سيتحملون مسؤوليات حقيقية في التخطيط والتنفيذ والرقابة ويتمتعون بالمبادرة لاقتراح المشاريع وبسلطات حقيقية واسعة تؤهلهم لتنفيذ تلك المشاريع أو رفض غيرها في ضوء تقييم المصادر المتاحة والنتائج المرجوة، وهل سيقفون في وجه الفساد والواسطة والمحسوبية أم ينقلون ذلك الفساد من مستوى الدولة المركزية إلى مستوى الإقليم، وهل سيكونون نواة لمجالس حكم ذاتي فعلية في المستقبل أم يكررون  تجربة مجالس المحافظات التنفيذية والاستشارية التي لا تمارس من مهامها الفعلية إلا أقل القليل ؟ ولماذا يوضع المعينون من قبل رئاسة الوزراء فوق المنتخبين من الشعب؟ إن كنا لا نثق بالشعب، فلماذا نمنحه حق الانتخاب، وإن كنا نثق به  فلماذا نفسد الانتخاب بالتعيين؟!

 الأهم من ذلك هو هل ستكون آليات الانتخاب نزيهة شفافة  بلا تدخلات من الجهات التي ألفناها في انتخابات البلديات ومجالس الأمة من قبل، وما هو القانون الذي سيطبق لانتخاب أولئك؟ وكيف يضمن لنا ذلك القانون وصول الأكفاء حتى لو كانوا من أبناء العشائر الصغيرة إلى مجلس الإقليم؟! وهل سيمنح المجلس صلاحيات لتعديل القوانين والنظم والتعليمات فيما بعد لتقرير العدد الذي يحتاجه من الأعضاء وغير ذلك من الأمور التنظيمية، أم أن القرار سيبقى في يد الحكومة المركزية وبرلمان الدولة؟!

 في ضوء تجارب الأردنيين السابقة مع مجالس البلديات والنواب فإن البعض يقول إن طبيعة المجالس المحلية لن تبتعد عن تلك التجارب، فهل يكون الأصل اختراع جسم جديد للحكم والإدارة أم إصلاح الآليات القائمة بالفعل والتي أوصلت البعض إلى مجالس النواب والبلديات؟!!

 ضمن هذا الخط من التفكير فإن البعض قد يتوصل إلى افتراض مزعج وهو أن الفكرة التي بدأت نبيلة ورائعة وتنموية قد تنتهي إلى إفراز أجسام إدارية بيروقراطية جديدة تضاف إلى جسم الدولة الكلي تضم موظفين برواتب عليا ربما يصل عددهم إلى مئات لأننا نفترض أن  مقابل كل فرد منتخب أو معين من هؤلاء الـ 132 سيكون هناك على الأقل خمسة موظفين آخرين مرتبطين بهم، وإذا تقرر إنشاء مجلس مشترك للاقاليم فيما بعد فإن هنالك تشكيلات إدارية أخرى ستتبعه بموظفين جدد، وهكذا نكون قد اخترعنا آليات وهياكل مستحدثة لزيادة عبء الرواتب على ميزانية الدولة بدلا من تخفيفه!

 أما الافتراض الأسوأ ضمن هذا النهج من التفكير فهو أننا سنكون عندئذ قد قدمنا للشعب مجلسا منتخبا منزوع الدسم، يتحمل المسؤولية ظاهريا، ولكنه يبقى جوهريا في طور الاستجابة لا المبادرة ، والخضوع لا المواجهة، على غرار تجارب مماثلة في مجالس النواب والبلديات!!

 هذا نمط من أنماط  التخوفات المطروحة، وإن كنت شخصيا أراه متشائما، إلا أن التجارب السابقة في تقزيم الأفكار الجميلة النبيلة وتحويلها إلى هجين ربما تقدم له بعض السند.

 -يتبع-
 


 



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات