المسافة


بالتأكيد لا أقصد المسافة الفيزيائية المادية بين نقطتين ، وإنما أعني المسافة المعنوية التي يجب أن تكون وتبقى بين جهتين أو طرفين ، يوجد بينهما علاقة حكما من نوع ما . كالعلاقة بين الحاكم والشعب والعالم والمتعلم والمربي والتلميذ والوالد والأبناء ورب العمل والعمال والمدير والموظف والزوج والزوجة ...الخ .
فوجود هذه المسافة من سنن الحياة وضرورات السلام الاجتماعي والتي بدونها يحدث شرخا في العلاقات واضطرابا في القيم يصبح معها صعوبة في استمرارها بسلاسة وخللا في منطق الأشياء التي تقرر بوجود جهة تخطط وتأمر وأخرى تلتزم وتنفذ طبعا بعد حوار ومشاركة وإقناع .
هذه المسافة تضمن وجود الهيبة والتي لا تعني قطعا التسلّط ، ولكنها مزيج من السلطة والاحترام والحب . تلك الخلطة العجيبة يجب وجودها حتى يحدث التوافق الذي يمكّن من متابعة العمل والإنتاج والاستقرار وبالتالي تستمر الحياة . وفي نفس الوقت فان ذلك لا يعني أيضا البعد والاستعلاء عن الطرف الثاني ، فبقدر القرب تكون المحبة ومعرفة الهموم والمشاكل فيعمد إلى حلها ، بل استشعار الأخطار فيقوم بتلافيها والمطالب فيلبيها . فمعظم النار من مستصغر الشرر .
لقد خلق الله سبحانه البشر غير متساوين لحكمة بالغة ، ولو تساووا لاختلفوا ولأصبحت حياتهم معا مستحيلة .ورغم عدم المساواة هذه إلا أن كل فرد يملك من الميزات والصفات والمهارات ما تجعل الآخرين يحتاجونه ويسعون إليه بل لا يستغنون عنه . فنحن نحتاج لكل الناس لأن لكل فرد دور وقيمة . وقد وضّحت ذلك الآية الكريمة " ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريّا " أي حتى يقوم كل بوظيفته في خدمة الآخرين برضى وقناعة ودون تأفف ، فان لم يقم بدوره أو حاول القيام بدور غيرة حدث خلل وفوضى . وفي قوله تعالى " ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم " فالتفاوت في الدرجات يقابله تفاوت في الابتلاء والحساب . فالله عز وجل يحاسب الناس حسب مستوياتهم . فحسابه للغني يختلف عن الفقير ، وصاحب الجاه والسلطة ليس كغيره .
إن أكثر المشاكل التي تنشأ بين بني البشر تكون بسبب عدم إدراك الفوارق بينهم وما يترتب على ذلك . فعندما ينسى الابن مكانة الأب وما له من قيمة ومنزله ويخاطبه أو يتصرف معه أو أمامه بطريقة غير مناسبة فان هذا يتسبب بحدوث شرخ يصعب ترميمه . أو تُلغي الزوجة هذه المسافة وتتصرف كقائدة للبيت ملغية دور زوجها عندها فان الأسس التي تقام عليها الأسر وهي المودة والرحمة والقوامة تتصدع . ومثلها العلاقة التي ينبغي وجودها بين أطراف المعادلة الأخرى .
إن الذوبان في الآخر والتداخل بين الأطراف وإلغاء المسافات أو اختصارها غير مطلوب ، حتى الأصدقاء يجب المحافظة على نوع ما من المسافة بينهم وإلاّ حُكم على علاقتهم بالفشل وكان الندم حيث لا ينفع عندئذ ندم .



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات