إنَّ شانئكَ هو الأبتر ..


الحمد لله الدائم برُّه، النافذ أمرُه ، الغالب قهرُه ، الواجب حمدُه وشكرُه ، وهو الحكيم الخبير ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في الملك والتدبير ، جلَّ ذكرُه ، وإليه يُرجع الأمر كلّه ، علانيته وسرُّه ، لا رادّ لقضائه ، ولا معقب لحكمه وهو على كل شيء قدير ، سبحانه وبحمده جعل لكلِّ أجلٍ كتاباً ، وللمنايا آجالاً وأسباباً .

وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله ، الهادي البشير، والسراج المنير، صلّى الله عليه وعلى آله الأبرار، وصحابته الأخيار، ما جن ليل وبزغ نهار، وسلَّم تسليماً كثيراً طيّباً مُباركاً فيه .

أمّا بعد ..

يقول الله – جلّت قدرتُه - : { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ }

اتفق أهل السّنة والجماعة على أن العروبة أفضل الأعراق والأنساب ؛" وسبب هذا الفضل – والله أعلم – ما اختصوا به في عقولهم وألسنتهم وأخلاقهم وأعمالهم ، وذلك أنّ الفضل إما بالعلم النافع ، وإما بالعمل الصالح ، والعلم له مبدأٌ : وهو قوة العقل الذي هو الحفظ والفهم ، وتمامٌ : وهو قوة المنطق الذي هو البيان والعبارة ، والعربُ هم أفهم من غيرهم ، وأحفظُ وأقدر على البيان والعبارة ، ولسانُهم أتمُّ الألسنة بياناً ، وتمييزاً للمعاني جَمْعاً وفرْقاً ، يجمعُ المعاني الكثيرة في اللفظ القليل .
وأمّا العمل فإنّ مبناه على الأخلاق ، وهي الغرائزُ المخلوقة في النفس ؛ وغرائزُهم [ أي : العرب ] أطوع للخير من غيرهم ؛ فهم أقربُ للسخاء والحلم والشجاعة والوفاء وغيرِ ذلك من الأخلاق المحمودة " كما قال شيخ الإسلام ابن تيميّة – رحمه الله – في ( اقتضاءُ الصراط المستقيم لمخالفةِ أصحاب الجحيم) .

ولا ريب أنّ الأمة العربيّة قبل الإسلام كان فيها من المنكرات والقبائح الشيء الكثير ؛ مع ما كانوا عليه – إضافة لما ذكر - من الشجاعة والإقدام ، والكرم والجود ، والوفاء بالعهود ، والدفاع عن الأعراض ، وغير ذلك من الأخلاق المحمودة .
ومن ذلك أنّ العرب كانوا قبل الإسلام أناساً ذوي قلوبٍ قاسية ؛ وطباعٍ خشنة ، والجهل فيهم قد بلغ حدّ أن يكون ديناً يتبع ، واستشرت بهم العادات المذمومة والقبيحة حتى صاروا يتغنون بها في أشعارهم ؛ وفشت فيهم الثارات والنزاعات ، فكانوا أمة تفرُّقٍ وتناحر ؛ وتقاتل وتشاجر ، وعصبية عمياء وتفاخر ؛ يأكل القوي منهم الضعيف ؛ عندهم المُوسِر مَهيباً مُوقّراً ، والمُعسرُ مَهيناً مُحقّراً ، وكان فيهم الفظاظة والشدّة ، والغلظة والحدّة ؛ ما يجعل أمر تحررهم من أغلال الجاهلية و تلك الأوحال ضرْباً من المُحال .

فبعث الله – تعالى - فيهم { رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ }؛ فبدأ النبي – صلى الله عليه وسلم – معهم داعياً إلى الله بالعلم والبيان ، والحجة والبرهان ؛ ناصحاً لهم ترك القبائح والرذائل ، ومُرشداً إلى عظيم الأخلاق والفضائل ؛ مُبشراً برضوان الله – تعالى - لعباده المتقين ؛ ومُنذراً لهم - من سخط الله وعقابه - إن كانوا من المكذبين .
وقد وجدوا فيه – صلى الله عليه وسلم – رجاحةَ العقل وكماله واتزانه ، وسعة الصدر ، والرأفة والرحمة ، والحرص على ما ينفعهم ، والصبر على أخطائهم وزلّاتهم ، والرفق واللطف بهم ، والشفقة عليهم ، وفصاحة اللسان، وحصافة الأسلوب ،وحسن المنطق ، والحكمة البالغة ، والشجاعة الغالبة ؛ والتواضع وخفض الجناح لهم ، والكرم والبذل ، وحفظ العهد ، والوفاء بالوعد ؛ وغيرها من الخصال الحميدة التي " لم تندُرْ فتُعدُّ ، ولم تُحصرْ فتُحدُّ " كما قال الإمام الماوردي ( إمام المشرق في زمانه ) ، فكان – صلى الله عليه وسلم – رحمة ، وهدى ، وبشرى بكل ما تحمله الكلمة الواحدة من معان ٍ باهرة ، ودلائل ظاهرة ، وأوصافٍ نادرة .
نعم .. إنّه المبعوث رحمة للعالمين ، وهدى وبشرى للخلق أجمعين ، سيّد ولد آدم – عليه السلام – يوم القيامة ، وخير الأنام محمد بن عبد الله – صلى الله عليه وسلّم تسليماً كثيراً طيّباً مباركاً فيه - .


( براءةُ المسلمين .. فيلم سينمائي – جديد – يُسيء للرسول الأعظم – صلى الله عليه وسلّم - ) ينتج في أمريكا ( الحضاريّة! ) .. سبقَ له الإعداد والتدبير ، ويُسمح بنشره تحت مُسمّى ( حريّة الرأي والتعبير ! ) ، مُنتِجٌ ( مأفونٌ ) حقير ، و ( ممثلون ) سقطةٌ ، مغفّلون، أشبه بـ ( حمير )!!

ليست هذه المرّة الأولى التي يُظهرون فيها – لنا – سَوْءاتِهم ؛ لكنّهم ( يطوِّرون ! ) في أساليب وأشكال صَوْلاتهم .. فمن ( مقولات وتصريحات ) إلى ( صور كاريكاتوريّة ورسومات ) ، وأخرى : ( كتب ومؤلفات ) ، إلى ما نراه – اليوم – من إنتاج ( الأفلام ) المشينة التي تستهدف شخصَ النبيّ الكريم – عليه أفضل الصلاة وأتمُّ التسليم - .

ولئن كان يملؤنا الغضبُ والغيظُ والقهرُ مما – عنه - سمعْنا ، ولئن فُُجعْنا ؛ لكنّا ما فُُجئنا .. فهكذا هم – أهل الكفر والطغيان - : غِلٌّ وبغضٌ لأهل الإيمان ، وأصحاب حقد – عليهم - وشَنَآن ، صفاؤهم للمسلمين خِداعٌ و مكرٌ ، وحالهم مع المؤمنين كرٌّ – في السّرّ - وفرٌّ ، { وما تُخفي صدورُهم أكبر } .

{ أولئك هم شرّ البريّة } ؛ قد بلغوا من الانحطاط الخُلُقي مبْلغاً عجيباً ، وبَلَعوا من القَذَر قدْراً رهيباً ؛ فما ظننا بأمثالهم وملّتهم .. ليس شيئاً غريباً !


وإذّاك قد صدر من أولئك اللئام ؛ فكيف ننتصر- اليوم - لنبيّنا محمدٍ – عليه السلام - ؟

ليس بغير حُسْن الإتّباع لهديه – صلى الله عليه وسلم - ، واقتفاء أثره ، وتعظيم سنّته ؛ فليست هي إلا بضع سنين من بعثة النبي – صلوات الله وسلامه عليه - ؛ حتى كان حوله رجالٌ يعجز البليغ عن وصفهم ؛ و" لو لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم معجزة إلا أصحابه لكفوه لإثبات نبوته" ؛ وهذه عبارة تناقلها العلماء في كتبهم ؛ وجرت على الألسن حقّاً مبيناًً؛ فإنّ من طالع سيرتهم – رضي الله عنهم – ووقف على أخبارهم ؛ عرف – يقيناً لا ريب فيه – أن من علّمهم وربّاهم لا يكون إلا نبيا ً مُرسلا من عند الله – جلّ في علاه – ؛ علّمَه وربّاه ، وأدرك أن أولئك الصحابة الكرام لم يكن ليبلغوا هذه المنزلة إلا بتحقيق كمال الإتّباع ، واجتناب ما كان فيه مخالفةٌ أو ابتداع ؛ وهذا يقتضي العناية بأقوالهم وأفعالهم واجتهاداتهم ، والوقوف على علمهم وعملهم ؛ ومن هنا يُفهم قول نبينا – صلى الله عليه وسلم – : " .. فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ " .

إنّ التزام السّنة وتعظيمها ، وتوقير أهلها ؛ لهو الانتصار الحقّ لنبيّنا – عليه الصلاة والسلام - ؛ فأمّا ما يكون من انفعالات ، وحماسيات ، وهبّات غضب عابرة سرعان ما تزول مع انقضاء الوقت ؛ فهذا ما لا ينفع الأمة شيئاً ، ولا يردُّ عنها كيْداً ، ولا يغني عنها من الذلّ مقدار حبّة من تراب .

والعاقل الذي يرى حال العرب اليوم – وقد عاد فيهم كثيرٌ من أدران الجاهلية ؛ يعلم – يقيناً – ما لبعث السّنة في حياتنا من أثر بالغ عظيم – جداً – في العودة إلى ماضي المجد والعزّة والمَنَعَة ؛ حينئذٍ لن يجرؤ كائنٌ من كان على تعدّي أدنى حُرماتنا ! .


وشانئُ النبيّ – عليه الصلاة والسلام - ؟

قال شيخ الإسلام – رحمه الله تعالى – في كتابه ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) : " إنَّ الله منتقمٌ لرسوله ممن طعن عليه وسَبَّه، ومُظْهِرٌ لِدِينِهِ ولِكَذِبِ الكاذب إذا لم يمكن الناس أن يقيموا عليه الحد ، ونظير هذا ما حَدَّثَنَاه أعدادٌ من المسلمين العُدُول، أهل الفقه والخبرة،عمَّا جربوه مراتٍ متعددةٍ في حَصْرِ الحصون والمدائن التي بالسواحل الشامية، لما حصر المسلمون فيها بني الأصفر في زماننا، قالوا:كنا نحن نَحْصُرُ الحِصْنَ أو المدينة الشهر أو أكثر من الشهر وهو ممتنعٌ علينا حتى نكاد نيأس منه،حتى إذا تعرض أهلُهُ لِسَبِّ رسولِ الله والوقيعةِ في عرضِه تَعَجَّلنا فتحه وتيَسَّر، ولم يكد يتأخر إلا يوماً أو يومين أو نحو ذلك،ثم يفتح المكان عنوة، ويكون فيهم ملحمة عظيمة، قالوا: حتى إن كنا لَنَتَبَاشَرُ بتعجيل الفتح إذا سمعناهم يقعون فيه ، مع امتلاء القلوب غيظاً عليهم بما قالوا فيه "

وقال في نفس المصدر : " ومن سُنَّةِ الله أنَّ من لم يُمكن المؤمنين أن يعذبوه من الذين يؤذون الله ورسوله فإنَّ الله سبحانه ينتقم منه لرسوله ويكفيه إياه، كما قال سبحانه: { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ}

والقصة في إهلاك الله واحداً واحداً من هؤلاء المستهزئين معروفة ، قد ذكرها أهلُ السِّيَر والتفسير، وهم على ما قيل: نفرٌ من رؤوس قريش، منهم: الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسودان بن المطلب وابن عبد يغوث، والحارث بن قيس.

وقد كتب النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى كِسرى وقَيصَر، وكلاهما لم يُسْلِم، لكنَّ قَيصر أكرم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكرم رسوله، فثَبَتَ ملكُه، فيقال: إنَّ الملك باقٍ في ذريته إلى اليوم، وكسرى مزَّق كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستهزأ برسول الله، فقتله الله بعد قليل، ومزَّق مُلكَه كلَّ مُمَزَّق، ولم يبق للأكاسرة ملكٌ.

وهذا والله أعلم تحقيق قوله تعالى: { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} ؛ فكُلُّ من شَنَأَهُ أو أبغضه وعاداه فإنَّ الله تعالى يقطع دابره، ويمحق عينه وأثره، وقد قيل: إنها نزلت في العاص بن وائل، أو في عقبة بن أبي معيط، أو في كعب بن الأشرف، وقد رأيتَ صنيع الله بهم؛ ومن الكلام السائر: ( لحوم العلماء مسمومة ) فكيف بلحوم الأنبياء - عليهم السلام -؟ " انتهى كلامه – رحمه الله - .

وبعدُ ..

فإنّ ما صدر - من أولئك الأفّّاكين السّفَلَة – لا يزيد المؤمنين إلا حُبّاً لنبيّهم – صلى الله عليه وسلم – وتعظيماً واتّباعاً ، وتمسّكاً بسنّته وهديه ؛ والذي ينبغي أن يدفع مثلُ هذا الحدث الواحدَ منّا إلى نشر وتعليم شمائل وأوصاف النبيّ – عليه السلام - ؛ الخَلْقيّة و الخُلُقيّة ما استطاع إلى ذلك سبيلاً ؛ فهذا خير ما تنتصر به لنبيّك – صلى الله عليه وسلّم – ، ويغيظ الكفرة الفَجَرَة أكثر وأكثر من غيظهم هذا الذي ظهر .



أسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُرينا فيهم عجائب قدرته ، وأن يزلزل الأرض من تحت أقدامهم ، ويُصيبهم بقارعة من عنده .
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على سيّدنا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدّين .



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات