العلمانيون والتدين الصنمي


يحاول بعضهم تسويق مبدأ "العلمانية" في أوساط الشباب والأجيال الجديدة في العالم الإسلامي عن طريق تسويغ منهج فصل الدين عن الحياة بكل مجالاتها، وعلى رأسها المجال السياسي، حيث أنّ مصطلح العلمانية مشتق من "العالم" أي العالم المادي المحسوس، إذ يجب إبعاد "الغيب" و"المقدس" عن التأثير في حياة الناس ومجريات سلوكهم، ويجب الاقتصار على ما يتمّ الإحساس به ومشاهدته في هذا العالم وما يُستطاع التوصل إليه عبر ما يتمتع به الإنسان من قدرات.
ويدعّم هؤلاء نظرتهم من خلال الاستشهاد بتجربة "الكنيسة" في أوروبا في العصور الوسطى، حيث فرض رجال الدين الكنسي مفاهيمهم على العلم والحياة من خلال الادعاء بأنّ هذا هو قول الله ورأي الدين، ونتيجة ذلك فقد تمّ إحراق بعض العلماء والتنكيل بكل من يخالف أقوالهم ويتمرد على أوامرهم، وقد خضع الملوك والأباطرة الأوروبيون لسلطات الكنيسة ومباركتها من أجل الحصول على الشرعية، ومارست الكنيسة سلاح الحرمان ضد الخارجين على سلطانها.
بعد انعتاق أوروبا من جبروت الكنيسة، انطلقت في مجالات البحث والاكتشاف العلمي، وانطلقت حركة الاستعمار الأوروبي الموازية لقوتها العلمية والتصنيعية، واستطاعت أن تفرض هيمنتها على معظم أجزاء الكرة الأرضية، وأشاعت ثقافتها الماديّة الجديدة، عن طريق حملاتها الموجهة في كلّ المسارات وعلى جميع الأصعدة، وأعلنت هيمنتها على مناهج التعليم وطرق توجيه العقل، واستطاعت استنبات جيل جديد في عالمنا العربي والإسلامي من المتعلمين الذين تمّت صياغة عقولهم وفقاً للثقافة الغربية من أجل استلام دفة التوجيه في بلادنا؛ من أجل تجذير التبعية الثقافية والحضارية فيها واستلاب الهوية الذاتية، وإشاعة بذور الخلاف والفرقة، وإعادة استنبات كل نوازع الاختلاف بين مكوناتها؛ من أجل استمرار حالة الضعف، والحيلولة دون امتلاك أدوات القوة والبناء الحضاري المستقل.
ومن بين هذه المسارات إبعاد "الإسلام" عن التأثير في حياة شعوب العالم العربي والإسلامي، حتى لا يكون مقوماً من مقومات النهوض والوحدة لها، ولا يكون عاملاً من عوامل بناء منظومتها القيميّة، ومرجعيتها الثقافية الشاملة، حتى يدوم بقاؤها وهي تمارس التسول على فتات موائد الغرب العلمية والثقافية، وحتى يستمر بقاؤها أمّة مستهلكة بعيدة عن الإمساك بناصية العلم والتكنولوجيا، وتفتقر إلى الإمساك بمقومات الإنتاج الذاتي.
يريدون هم وأتباعهم أن يولدوا قناعة لدى أبنائنا بأنّ الدين سبب في إثارة النزاعات، وسبب في بقاء التخلف والجهل، ولذلك يجب ممارسة "الدين" بشكل فردي وعبر علاقة خاصة بين الفرد وربه، بعيداً عن السياسة والعلم والإدارة والتصنيع والاقتصاد والسوق والمعمل والمختبر؛ بمعنى أنّهم لا يعارضون الدين كعلاقة فردية بين العبد وربّه، ولكن يجب الفصل تماماً بين المعتقدات من جانب وممارسة الحياة من جانب آخر.
إنّ هذا الوصف العلماني للتدين والعبادة، ما هو إلاّ إعادة تدوير لمفهوم التدين الصنمي في الجاهلية القديمة ولكن بطريقة عصرية، فقد كان الجاهليون يمارسون عبادة (إله) مفترض من الحجارة أو الخشب أو التمر أو العاج، أو أحياناً التوجه نحو الشمس أو القمر أو بعض النجوم والكواكب، ولكن لم يكن لهذه العبادة أي أثر ملموس في أي مجال من مجالات الحياة السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، رغم التعلق الذاتي الفردي الذي يتجلى ببعض الطقوس والتقرب ببعض الذبائح والهدايا والتمائم.
والسؤال الكبير الذي يحتاج إلى إجابة: لماذا أتوجه بالعبادة نحو (إله) معين وفقاً لدين معين، وهذه العبادة وهذا التوجه لا يؤثر في أخلاقي وسلوكي في العمل، ولا أثر لهذا الإله في تعاملي مع البشر، ولا يوجه أدائي السياسي أو الإداري، ولا يُلزمني بالأمانة ولا إقامة العدل، ولا الإنصاف في القضاء، وعدم الغش في الإنتاج؟!!، فلماذا أعبده إذا؟!!.
ما الفائدة من هذا الدين؟ ولماذا الذهاب إلى المسجد؟ ولماذا العبادة؟ فهل هي عبارة عن طقوس جامدة، وتراتيل جوفاء، وترانيم ساذجة، وحركات بلهاء، لا تؤثر في يقظة الضمير، ولا تبني القيم، ولا تزكي النفس، ولا توجه العقل!!!، هذا هو التدين الصنمي في حقيقته وجوهره.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات