حرب غزة بين ثقافة المقاومة وثقافة الهزيمة


حفلت تجارب التحرر الوطني بمفارقة تاريخية تتعلق بثقافتين عملتا جنباً إلى جنب، ثقافة المقاومة وثقافة التفاوض والقبول بالأمر الواقع، فدائماً كان هناك فصيل واسع يرفع شعاراته الثورية بالاستقلال الوطني، وبناء دولة الأمة القائمة على سيادة قرار البلاد وشعبها، يقابله فصيل آخر يرفع شعاراته (السلمية) ويعتبر طريق التفاوض والقبول بالاحتلال، جزئياً أو كلياً، هو طريق الاستقلال والسيادة والتنمية.

ولكن نادراً ما أثبت التاريخ أن طريق الفصيل الثاني قد وصل بالبلدان والشعوب إلى أهدافها في التحرر والسيادة والاستقلال فضلاً عن التنمية الاجتماعية والازدهار الاقتصادي، بل أثبت التاريخ أن هذا الطريق لم يقد إلا نحو الهزيمة وضياع الأوطان ومستقبل الأمم، لأنه في الأساس بني على ثقافة الهزيمة والرضوخ لمعايير القوة وحسابات الربح والخسارة من منظور فئوي ضيق، يتعلق بجماعة حزبية أو إثنية أو طائفية.. لكنه لم يتعلق في وقت من الأوقات بمنظور تاريخي لمصلحة الأمة وحقها في تقرير مصيرها، وبالتالي حصولها على سيادتها واستقلالها.

وبالتأكيد كانت تجربتنا العربية في مقاومة الاحتلال عموماً، والفلسطينية خصوصاً، قد وقعت في نفس المفارقة والتناقض بين ثقافتين: ثقافة المقاومة وثقافة الهزيمة.

وبداية لو أردنا تعريف ثقافة المقاومة لقلنا بأنها تراكم، وموروث يتشكل وينمو –كما الهوية الوطنية– ضمن حواضن تاريخية، وتأثيرات معاصرة، تلعب دوراً في صياغتها، وبلورتها، وصهرها ضمن كيانٍ جامع للتراث، والتاريخ، والتربية، والسلوك، بسلبهِ وإيجابهِ، وبكلمة هي الثقافة التي تعبر عن حركة الأمة تاريخياً، وضميرها الجمعي النابض بالحياة من خلال راياتها التي تؤكد على بقائها وبنائها في الزمان والمكان.. التعريف الذي يقودنا إلى نقطة لا يدركها الكثيرون، أن شعارات الأمة في الوحدة والحرية والعدالة الاجتماعية، اشتراكية أو غيرها، ليست من قبيل المكابرة أو (الجعجعة) الشعاراتية، وإنما هي الطموحات الراسخة داخل الوجدان الشعبي، التي لا يجوز القفز عنها أو التلاعب بها، لأنها أكبر من المتغيرات التكتيكية أوالمؤقتة التي تتعرض لها الأمة.

في حين لو أردنا تعريف ثقافة الهزيمة لقلنا إنها ثقافة القبول بالأمر الواقع، وثقافة السعي إلى مكاسب تكتيكية ومباشرة على حساب مكاسب الأمة الإستراتيجية وعلى حساب مصير أبنائها وأجيالها القادمة، وهي الثقافة القائمة على الفصل في تاريخ الأمة بين ماضيها وحاضرها، وبالتالي جعل المستقبل في مهب الريح، ومهب المتغيرات الدولية والإقليمية، ولا شك أنها الثقافة التي يقودها فصيل يدعو إلى التفاوض والسلام دون النظر إلى ماهية هذا السلام، ولا داع لذكر أن الدوائر الإمبريالية في العالم هي التي تعمل جاهدة على تعميم هذه الثقافة لدى الشعوب الفقيرة والمضطهدة والتي تعرضت للاحتلال وسلب أراضيها وحقوقها.

ولا شك أن هذه المفارقة تغدو صارخة وقوية، عندما تهزم الأمم فعلياً، فينشأ آنذاك اتجاهين، إيجابي وآخر سلبي، الأول يتمثل بوعي يتناسب مع ثقل تلك الهزيمة وأبعادها، ويقوم بنقد ذاتي يمنع الهزيمة من أن تتحول إلى حاله من الديمومه والثبات الثقافي. فبعد أن هُزِمت اليابان وألمانيا في الحرب العالمية الثانية وأعلنتا استسلامهما، حصلت آنذاك تبدلات وتغيرات كبيرة داخل تلك المجتمعات وربما شعور بالذنب لما جرته تلك الحرب التي تسببت تلك الدولتان في قيامها على الإنسانية جمعاء ووضعت الخطط على ذلك الأساس وفي اتجاه النهوض والعودة إلى الفاعلية الدولية من أبواب أخرى، هذه في بعض أبعادها ثقافة رفض الهزيمة، ولكن أن ينتقل وعي الهزيمة ويتحول إلى ثقافة ذاتية الإنتاج فذلك شأن آخر.

والشيء المدهش أننا كأمة لم نتعرض لكارثة بقدر ما تعرضت لـه اليابان أو ألمانيا في الحرب العالمية الثانية من تدمير واحتلال من قبل قوات الحلفاء ، فهزيمة حزيران، بقدر بشاعتها وتأثيرها على الأمة لم تفك من عضدها، بحيث استطاعت الأمة وبعد أعوام قليلة من ذلك شن حرب قوية ضد المحتل الإسرائيلي، فلم تكن هناك ثقافة للهزيمة بعد تلك النكسة ولكنها كانت ثقافة التحدي والإصرار على مسح أثار العدوان.  

ولا شك أن الأمة بعد حرب تشرين، قد خاضت الكثير من المعارك ضد الاحتلال الإسرائيلي، ولا نزعم أن معاركنا تلك كانت عبارة عن انتصارات متتالية، ولكننا كحد أدنى استطعنا الثبات وتأكيد الوجود والقدرة على مواصلة النضال رغم الفارق النوعي بين الدولة الإسرائيلية اليوم والدول العربية، فضلاً عن الفارق بالموقف الدولي الداعم لإسرائيل ولاستمرار احتلالها للأراضي العربية.

لقد كانت الثقافة العربية عموماً هي ثقافة مقاومة، تقوم في الأساس على العدل، ورفض التسلط والظلم، ما يعني أن الأرضية للشعوب العربية – ومنهم فلسطينيي الداخل والشعب الصامد في الجولان السوري المحتل – قائمة، وصالحة لأن نبني عليها ثقافةً قادرةً على تذليل العقبات، وتطويع الواقع، وفي وقفةٍ متفحصة نجد أن الثورات والهبّات الشعبية، كانت على الدوام تبرهن أنها تمثل حالة رفع، وداعم أساسي للشعوب، تزيد من تراصّهم، وترابطهم، وتولّد لديهم طاقةً إيجابية في التعامل والتعايش، لأنها فعل إيجابي ضد كيان سلبي، وهو ما يتمثل في ثقافة المقاومة، التي تمثل الإيجابي في مواجهة السلبي، من يأس، وإحباط، واحتلال، فكانت الانتفاضة الفلسطينية الأولى والثانية، العنوان الجامع للشعب الفلسطيني أين كان أو تواجد.

فلقد قويت في الوعي العربي إمكانية الانتصار على إسرائيل في المواجهة إذا ما تغير فن الحرب، من النظامية، جيشاً لجيش، إلى الشعبية شعباً في مواجهة جيش محتل. وصدقت النظرية في صد العدوان على بيروت في 1982 وفي تحرير الجنوب في 2000 ثم في حرب تموز 2006 وأخيراً في حرب 2008- 2009 بصد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة. وظلت غزة صامدة ثلاثة أسابيع. وضحّت بما يزيد على الألف شهيد، وبما يزيد على خمسة آلاف جريح نصفهم من النساء والأطفال. ولم يحقق العدوان الإسرائيلي أهدافه في العدوان على قطاع غزة.

صحيح أن المقاومة لم تستطع أن تفعل شيئاً يذكر أمام الغارات التي أطلقت فيها إسرائيل أقوى طائراتها لأسباب مفهومة، إلا أن معركتها الحقيقة كانت على الأرض، حيث فاجأت المقاومة خلالها إسرائيل بما لم تتوقعه.

وكما يقول فهمي هويدي في مقاله المعنون ( شعب الجبارين) والمنشور في صحيفة السفير اللبنانية: 

"لم تهزم المقاومة القوات الإسرائيلية، لكن كل الشواهد دلت على أنها صمدت أمام تلك القوات، ووجهت إليها ضربات موجعة، أسهمت في إفشال مهمتها. ولا تنس أن يوفال ديكسين رئيس المخابرات الداخلية الإسرائيلية كان قد توقع أن يسقط القطاع خلال ٣٦ ساعة، ولكنّ بسالة المقاومة أطالت من أجَل الحرب، حتى اضطرت إسرائيل إلى وقف إطلاق النار من جانبها في اليوم الثاني والعشرين".

رغم أن ما جرى لم يكن اجتياحاً عسكرياً بالمعنى الاستراتيجي، بل كان أشبه بحملة انتقام وترويع استهدفت تدمير القطاع، وذبح أهله والتمثيل بهم، حتى يكونوا أمثولة وعبرة لغيرهم ممن يتحدون العجرفة والاستعلاء الإسرائيليين.

ولكن دماء فلسطينيي غزة التي نزفت وأشلاءهم التي تناثرت وصرخات أطفالهم التي ألهبت ضمائرنا وما زالت أصداؤها تجلجل في أعماقنا، هذه كلها إذا كانت قد سجلت أسطر المأساة، إلا أن وقفة الشعب، وصموده الرائع ومقاومته الباسلة، هذه أيضاً سجلت صفحات مضيئة في تاريخ أمتنا لا ينبغي أن نبخسها حقها. يكفي أن شعب الجبارين هذا رغم كل ما تعرض له من حمم أمطرته بها آلة الحرب الإسرائيلية بكل جبروت وقسوة، (كما يضيف هويدي أيضاَ) ظل رافضاً للركوع والتسليم، وها هو سيل الشهادات التي سمعناها بعد وقف المذبحة على ألسِنَة الأطفال والنساء والشيوخ، كلها تجمع على أن طائر الفينيق الذي تحدثت عنه الأسطورة، ذلك الذي يخرج حياً من تحت الرماد، ثبتت رؤيته في غزة.

لأنهم لم يركعوا ولم يرفعوا رايات التسليم فإنهم نجحوا وأفشلوا خطة عدوهم.

وتشهد بذلك كتابات أغلب المعلقين الإسرائيليين، التي سجلها تقرير نشرته صحيفة "الشرق الأوسط" في ١٩/١ /2009 وتضمن خلاصة لتلك الكتابات. منها مثلاً أن رون بن يشاي المعلق العسكري لصحيفة يديعوت أحرونوت، ذكر في النسخة العبرية للصحيفة في (١٨/١)، أن إسرائيل فشلت بوضوح في تحقيق الهدف الرئيسي المعلن للحرب، المتمثل في تغيير البيئة الأمنية في جنوب إسرائيل.

وهو ما لم يتحقق حين تبين أن حركة حماس مستمرة في إطلاق صواريخها. وهو المعنى نفسه الذي أكده المعلق السياسي الوف بن، وكرره جاكي كوخي معلق الشؤون العربية في صحيفة "معاريف" الذي قال إن إسرائيل فشلت في توفير صورة النصر في معركة غزة، وإن ما بقي من هذه الحرب هو صور الأطفال والنساء والقتلى، التي أوصلت إلى عشرات الملايين في العالم رسالة أكدت تدني الحس لدى الجيش الإسرائيلي. منها أيضاً ما قاله يوسي ساريد الرئيس السابق لحركة ميرتس في مقال نشرته صحيفة "هآرتس" أن عملية القتل البشعة التي أنهت بها إسرائيل مهمتها في غزة تدل على أنها هزمت في هذه المعركة ولم تنتصر. أما المعلق عوفر شيلح فقد ذكر أن القيادة الإسرائيلية حين قررت تدمير غزة فإنها تأثرت في ذلك بالنهج الذي اتبعه رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين مع شيشينا وجورجيا، ثم أضاف: "اذا كنا نريد أن نظهر كمنتصرين باستخدام هذا النهج، فويل لنا".

ولو أردنا الاستطراد قليلاً في الشهادات الإسرائيلية، حول حرب غزة، لانتابنا العجب، أنها الشهادات التي تم إغفالها في الاعلام العربي، الذي ركز على المذبحة وقتل الأبرياء ، وحمّل معظمه حماس مسؤولية تلك المجزرة المروعة، في حين أنه ابتعد عن التركيز على صمود المقاومة الوطنية الفلسطينية وعلى رأسها حماس. فموقع صحيفة يديعوت أحرنوت مثلاً، على الانترنت تحدث باقتضاب عن قصة ضابط إسرائيلي هو الرائد ميكي شربيط، الذي يرقد في أحد المستشفيات للعلاج من إصابته في اشتباك مع رجال المقاومة الفلسطينية في شمال القطاع. هذا الضابط الذي خدم كقائد سرية بسلاح المدرعات في حرب لبنان الثانية، استهجن تجاهل الإعلام الإسرائيلي الإشارة إلى شراسة المقاومة التي واجهتها القوات الإسرائيلية. وفي الحديث الذي أدلى به إلى النسخة العبرية لموقع الصحيفة وصف الحرب الدائرة وقتذاك بأنها "حرب أشباح لا نرى فيها مقاتلين بالعين المجردة، لكنهم سرعان ما يندفعون صوبنا من باطن الأرض. لقد كنا نتحرك في الشوارع ونحن ندرك أن أسفل منا مدينة خفية تعج بالشياطين".

لقد فوجئ الإسرائيليون بكل ذلك. واعترف روني دانئيل المعلق العسكري لقناة التلفزة الإسرائيلية الثانية بأن قوات الجيش الزاحفة واجهت مقاتلين أشداء، وقال على الهواء إن الإبداع العسكري الذي يواجه به نشطاء حماس الجيش الإسرائيلي فاجأ قادته بشكل صاعق. ونوّه إلى أنه محظور عليه التحدث عن المفاجآت التي تعرض لها الجنود الإسرائيليون في غزة، التي تفسر عدم قدرة هؤلاء الجنود على التقدم في كل القطاعات رغم مضي ١٩ يوماً على الحملة، ورغم إلقاء الطائرات الإسرائيلية مئات الأطنان من القنابل الفتاكة لتقليص قدرة المقاتلين الفلسطينيين على المقاومة.

وفي هذا السياق نقل اليكس فيشمان المعلق العسكري لصحيفة يديعوت احرنوت عن عدد من الجنود في ساحة المعركة أن الهاجس الذي سيطر عليهم طول الوقت هو الخوف من الوقوع في الأسر. وأشار هؤلاء إلى أن مقاتلي حماس أعدوا شبكة من الأنفاق للمساعدة في محاولات أسر الجنود.

الشهادات الإسرائيلية تقول: أن غزة لم تهزم، وبدورنا نقول أن ما حدث في القطاع ليس مأساة ولكنه ملحمة. أما الهزيمة الحقيقية والمأساة التي يندى لها جبين الشرفاء، هي من نصيب الواقفين على الضفة الأخرى من المنسوبين إلى الأمة العربية، الذين تقاعسوا وولوا الأدبار حين جد الجد.

في الختام رحم الله حكيم الثورة الفلسطينية الراحل جورج حبش الذي عارض اتفاقية أوسلو العبثية ورد على الراحل أبو عمار عندما قال له هذا هو الممكن في الوقت الحالي قائلاً" الثورة جاءت لتحقيق المستحيل وليس الممكن".



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات