التاريخ المزيف و الثورات العربية المبرمجة


منذ أن انفردت الولايات المتحدة بقياد العالم ، وأصبحت تستأثر بسياسة القطب الواحد بعد انهيار ما كان يسمى بالاتحاد السوفياتي ، أصبحت تمارس سلطاتها القمعية بصفتها هي القوة الوحيدة أو ما يسمى بـ (القطب الواحد) الذي يمتلك الأرض والفضاء الرحب بأكمله ، وكل شيء في الوجود ، وبدأت تفرض هيمنتها القسرية على كل شيء ، فعمدت منذ إنهيار القطب الآخر ، إلى اعتماد سياسة قمعية ضد كل شعوب الأرض ، وأخذت ترسل جنودها إلى أي مكان من العالم وتحارب بشراسة في أي مكان فضحت بشبابها من أجل أطماع لا تفيد الولايات المتحدة بشي محدد ، وكل ذلك من أجل فرض نفوذها وسلطانها بقوة السلاح والبطش ، على كل الموارد الاقتصادية والصناعية والعلمية والتكنولوجية في العالم ، دون أن يسمح لأي شخصية سياسية في هذا الكون بأن يقف موقفا شجاعا ليبدي مجرد رأي منافي لرغبة أمريكا ، ولو كان بنظر الأمريكان صوابا ، كما قرر سياسيوها أن يصموا آذانهم عن سماع صوت الحق والعدل مهما علا ، بل واتخذت قرارا حاسما بأن لا تلتفت أبدا إلى ما يسمى بمنطق العقل والعدل بأي حال من الأحوال .
والعالم كله يعرف ، مثلما تعرف أمريكا نفسها ، بأن تاريخها السياسي والعسكري الملطخ بالدماء على مر التاريخ قام على حروب الدم ، ومن هنا أصبحنا نوقن بأن أيادي الأمريكان منذ نشأة أمريكا هي أياد ملطخة بدماء الشعوب ، فمنذ أن استقلت ومنحتها بريطانيا العظمى استقلالها ، كرست اهتماماتها ، وجمعت ثقلها لتقوم بدور الغزاة ، لغزو كل دول العالم عسكريا ، لتفرض عليها فيما بعد هيمنتها السياسية .
الباحث المصري نزار بشير وثق حضارة الدم في 440 صفحة هي محتويات كتاب "حضارة الدم وحصادها.. فصول من تاريخ الإرهاب الأمريكي" الصادر عام 2003 عن دار الزهراء للإعلام العربي.
وفي هذا الكتاب .. يرصد الباحث محاور الحروب الأمريكية ؛ فقد بدأ الأمر بوصول المستوطنين الأوربيين إلى القارة الأمريكية ؛ فكانت الحروب الأولى بين هؤلاء المستوطنين وسكان القارة الأصليين الذين أطلق عليهم "الهنود الحمر"؛ حيث جرت هناك عمليات إبادة جماعية لسكان القارة الأمريكية ، رغم أن هؤلاء السكان لم يكن لديهم القدرة أو القوة على اعتراض التمدد السكاني للمستوطنين (أجداد الشعب الأمريكي اليوم) ؛ ولكنه رفض الآخر وعدم القدرة على العيش معه، إضافة إلى أن تواجد الشعب الأمريكي الأصلي يعني أن يظل المستوطنون مجرد ضيوف؛ لذا - وكما يجري في فلسطين حتى يومنا هذا- كان يجب على الشعب أن يرحل، ويُقتل ويتم التنكيل به حتى يصبح المستوطنون هم السكان الأصليون.
وعلى عكس ما روّجت له آلة السينما الأمريكية وصدّقناه، لم يكن الهنود الحمر قوما متوحشين، أو مجموعة عصابات تقتل البشر لمجرد القتل، والغريب أن الدول الأوروبية لم تكن بحاجة إلى استيطان القارة الأمريكية من الأساس، ولكنها الرغبة في السيطرة على القارة الجديدة، وانتقال الحرب بين الأمم الأوروبية في العالم القديم إلى حرب استيطان في العالم الجديد أيا كان السبب، وبالفعل ما هي إلا بضعة أعوام، وأعلنت روسيا قيام ولاية روسية في أمريكا هي اليوم ولاية ألاسكا، وسارعت إسبانيا بإعلان قيام دولة إسبانيا الجديدة، وهي الدولة التي قسمت اليوم على أكثر من دولة بالقارة الأمريكية وأهمها الولايات المتحدة والمكسيك، ثم فعلت بريطانيا وهولندا والسويد وغيرها من الدول الأوروبية فعلها، وأصبحت القارة الأمريكية دويلات تنتمي إلى أوروبا، تماما كما فعلت أوروبا في الشرق الأوسط إبان الحملات الصليبية حينما أسست أكثر من دولة، وكل دولة من تلك تأخذ أوامرها من عاصمة أوروبية.
ويُـبرز خطأ الكاتب الأول حينما قفز فوق هذه المرحلة، رغم أنها هامة، ويجب أن يفرد لها مساحة أطول لتفهُّم دور الدم في بناء الولايات المتحدة الأمريكية، وكان لديه العديد من المراجع؛ فعلى سبيل المثال صدر في فرنسا قبل بضعة أشهر من صدور الكتاب دراسة للباحث الفرنسي جيلاس هافرد؛ بالاشتراك مع سيسيل فيدال بعنوان "تاريخ أمريكا الفرنسية" Histoire de l'Amérique française أوضحا فيه المرحلة الأعنف، حينما راحت تلك الجمهوريات الأوروبية تتصارع في قلب القارة الأمريكية ؛ فجمهورية هولندا الجديدة قامت بغزو جمهورية السويد الجديدة، وعلى أنقاض جمهورية هولندا الجديدة نشأت فيما بعد ولاية نيوجيرسي؛ بل إن مدينة نيويورك عاصمة ولاية نيويورك كانت تسمى نيو أمستردام أي أمستردام الجديدة نسبة إلى العاصمة الهولندية.
ولكن يُحسب للكاتب أنه لم يغفل المذابح التي أجريت بحق السكان الأصليين حتى حينما أعلن قيام الولايات المتحدة الأمريكية في 4 يوليو 1776؛ فقد حضر الرئيس الأمريكي أندرو جاكسون عملية قتل وتشويه 800 أسير من الهنود الحمر , وأمر بجدع أنوف جميع الضحايا من أجل إحصاء العدد الصحيح للقتلى، ووافق على دباغة جلود القتلى لاستخدامها في جمة الخيل، أما الرئيس بنيامين هاريسون؛ فقد أمر في 29 ديسمبر 1890 بقصف وإبادة معسكر ديني لإحدى الديانات الخاصة بالهنود الحمر في تناقض واضح لمن يدعون اليوم بحرية الأديان، ويطالبون بالحرية للملحدين واللادينيين إلى آخر هذه القائمة.
أما في عصر الرئيس الأمريكي يوليوس جرانت؛ فكانت له مذبحة شهيرة؛ إذ ما بين 28 و30 أبريل 1871 ودون أن يتوقف القتل ليل نهار تم بعثرة 110 جثة في وادي أريزونا لأطفال ونساء وشيوخ ورجال هم كل ما تبقى آنذاك من قبيلة الأباتشي، ونلاحظ أن العسكرية الأمريكية على سبيل التباهي بهذه المذبحة أسمت واحدة من أشرس طائراتها بنفس اسم القبيلة.. أباتشي.
وحتى الرئيس أبراهام لينكولن الذي يصنع منه الأعلام الأمريكي بطلاً وثائراً ومحرراً، كانت له مذبحة شهيرة في نوفمبر 1864 حينما تمت إبادة قبيلة "شياني" (حوالي 200 فرداً) على الرغم من أن هنالك ما يشبه اتفاقية سلام بين القبيلة والحكومة الأمريكية ، وتم تشويه الجثث واقتلاع فروات رؤوسهم من أجل دبغها.
وإذا كان محور الدم الأول في التاريخ الأمريكي هو إبادة سكان القارة الأصليين، والمحور الثاني هو حروب الاستيطان بين الإمبراطوريات الأوروبية ثم بين المستوطنين أنفسهم، فإن المحور الثالث فكان حروبا تكون الولايات المتحدة الأمريكية طرفاً فيها؛ فالولايات المتحدة الأمريكية لم تعلن استقلالها عن بريطانيا، ثم باقي الدول الأوربية من أجل الحرية أو حقوق الإنسان، ولكن لأن الشركات التي أقامها المستوطنون هنالك كانت تعاني من الضرائب التي فرضت عليها، وكانت تدخل خزائن ملوك وأباطرة أوروبا؛ لذا أتى الاستقلال، ولا يوجد جنرال من جيش الاستقلال الأمريكي إلا وكان يتلقى مساعدات مالية من تلك الشركات التي أنشأت الولايات المتحدة الأمريكية، هذه الشركات لا تزال حتى يومنا هذا تدير الدولة التي صنعتها.
وهكذا انطلقت حضارة الدم، تحارب جيرانها الأمريكان، عبر محاربة المكسيك وكندا وغيرها، وضم تكساس وكاليفورنيا بالقوة من المكسيك، ثم التدخل العسكري في أمريكا الجنوبية في كوبا والأرجنتين وغيرها، قبل أن تأتي اللحظة الإمبراطورية الكبرى عقب الحرب العالمية الثانية ويتدفق الجندي الأمريكي بالسلام الأمريكي إلى فيتنام، والكويت والعراق ويوغوسلافيا وأفغانستان وباكستان والصومال وحتى في معارك حرب أكتوبر 1973 بين مصر وإسرائيل.
لقد وقف رئيس الوزراء الفرنسي جورج كلمنصو يتأمل الدمار الذي صنعته الولايات المتحدة الأمريكية خلال الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، رغم أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت آخر دولة تدخل تلك الحرب؛ مما جعله يصرخ: "إن أمريكا هي الأمة الوحيدة عبر التاريخ التي انتقلت من مرحلة التخلف إلى مرحلة الانحطاط دون المرور بمرحلة التحضر"، والغريب أن الأديب الإنجليزي أوسكار وايلد (1854-1900) قال العبارة ذاتها حينما وصلت أنباء المذابح الأمريكية إلى لندن؛ بل والمذهل أن الرئيس الفرنسي شارل ديجول كرر العبارة ذاتها عقب الحرب العالمية الثانية (1939-1945) .
وأخيراً، وفي مشهد لم ينسه أيّ من رفاقه، وقف المجند الأمريكي توماس شيتوم وسط أشلاء الفيتناميين صارخاً: "أمريكا ولدت في الدماء، رضعت من الدماء، أتخمت دماء، تعملقت على الدماء، ولسوف تغرق يوماً في الدماء"، وتحولت تلك الصرخة إلى حركة معارضة للحرب في فيتنام وتزعمها شيتوم نفسه حينما عاد من الحرب.
من هنا .. فإني أقول.. وبكل جرأة وبأعلى صوتي .. هل من المعقول أن لا يقرأ الزعماء العرب هذا التاريخ الأسود ؟.. فإذا كانت حضارة أمريكا وتقدمها وسعيها للهيمنة على العالم ، بحسب ما أفضى به أصدقاء أمريكا ، وشهادات شهود من أهلها ، هي حضارة قامت وما زالت تقوم على الدم ، ولم تتورع يوما عن المضي بهذا المستنقع الدموي إلى أن ينتهي العالم بأسره ، ربما على أيدي الأمريكان أنفسهم .
إذن كان لا بد من وقفة تفكير طويلة إزاء ما ينتظر مستقبل العالم العربي بشكل خاص ، والعالم الإسلامي بشكل عام .. وهما عالمين أصبحا ينقادان وراء أمريكا بكل ما تعنيه الكلمة من معنى ، فالقادة والسياسيون في عالمنا العربي ، الذين انسلوا من واجباتهم ومسئولياتهم وتخلوا عن مبادئهم بالمطلق ، وراحوا يبحثون عن الثروة والمال ، والانشغال بالشهوات وترتيب أمورهم الخاصة ، فانحسرت عقولهم في تلك الدوائر الضيقة ، واهتموا فقط في صنع مستقبلهم العائلي ، فكرسوا حياتهم من أجل تلك الغايات ، وكان من الأجدى أن يكونوا صناع قرار ، لا منفذين لقرارات الأسياد ، بل فبدلا من ذلك صاروا هم صناع فساد في بلدانهم ، فكدس الكثير منهم المليارات في بنوك الغرب والولايات المتحدة الأمريكية ، كضمان أبدي لحياة الثرى والبذخ ، فأفلسوا بلدانهم وأفقروا شعوبهم ، وقد أهملوا واجباتهم وتركوا شعوبهم على قارعة الطريق ، بل وصاروا يتعاملون معهم وكأنهم قطعان ماشية ، لا يهتمون أبدا بما ينتظرهم من مصير مظلم .
لم يحاول القادة والسياسيون العرب أن يفهموا بأن هناك دولة صهيونية ، قائمة على التوسع والاحتلال والبغي ، وما دامت هذه الدولة الصهيونية قائمة على هذه الأركان ، فلن تقوم للعرب قائمة ما داموا يعيشون بعقلية القهر والإذلال لشعوبهم ، كذلك لن يكون بوسع أمريكا نفسها ، سوى الانصياع لرغبات الصهاينة ، وتنفيذ كل مخططاتهم وأطماعهم وتطلعاتهم نحو التوسع على حساب شعوب المنقطة وسيادتها القومية .. هذا إن بقي أي بصيص يذكر من السيادة القومية للشعوب .
نحن تطلعنا الى الثورات العربية التي قامت من حولنا بابتهاج وفرح ، وهي كما نعرف الآن عبارة عن ثورات تمت بتخطيط صهيوني أمريكي مشترك ، ولولا البرامج التي حيكت عباؤتها بإتقان في أفران أمريكا وإسرائيل ، لكان من المحال أن تنجح أي ثورة من الثورات ، في إقصاء زعيم من الزعماء الذين جثموا على صدور شعوبهم أكثر من ستة قرون .
والمجتمعات العربية وشعوبها التي رضعت لبان الجبن والخوف منذ ولادتها في أحضان زعماء مستبدين بنوا عروشهم الأزلية على أساس من القهر والإذلال ، هي مجتمعات قامت تبعا لذلك على التخلف والانحلال والتراجع نحو الوراء ، وقد أمضوا تلك الحقبة من الزمن ، وهم في حالة رعب قاتل ، لا يجرؤون أبدا على قول كلمة حق واحدة في وجوه قادتهم . فكيف بنا نتشدق الآن بحرية ليس لها وجود ، ونجأر ونصرخ بمليء أفواهنا ، متغنين بما يسمى بالربيع العربي ، ونحن نرى أننا نسير في طريق مسدود .. نحو الهاوية ، ولا يمكن أبدا .. وأنا هنا أتكلم بلغة المتحدي لمن يرى غير ذلك ، وسوف تثبت الأيام صحة ما أقول ، بأنه من غير الممكن أن ترى الشعوب العربية مستقبلا أكثر نقاء وصفاء من المستقبل المظلم الذي ساد حياة الشعوب ، قبل أن ينقضى إلى غير رجعة ..
إننا على عتبة الهاوية .. وعلينا أن لا نصدق أبدا الجعجعة والهرطقة التي تملأ الجو من حولنا بالأكاذيب والتصريحات المزيفة ، وعلينا أن ندرك علاقة هؤلاء الذين يدعون الوطنية بالموساد الإسرائيلي ، والمخابرات الأمريكية ، وعلينا أن نعلم بأن الحاصل ما هو تزييف لكل الحقائق التي يعيشها العالم العربي اليوم .. لكننا بالرغم من الإحباط الذي أصابنا نتيجة الثقة العمياء التي لا تقوم على حقيقة واحدة ، والتي كانت توليها الشعوب العربية لحكامها وزعمائها ورجالاتها الذين كانوا يتولون مسئوليات الأمة والوطن الحساسة في الدولة مثل جهاز المخابرات الذي يعتبر من أعظم مقومات الدولة ، فحينما يخترق مثل هذا الجهاز ، فترحم على الدولة كلها ، لأنه من واجبات هذا الجهاز الأساسية هو الحفاظ على أمن وسلامة البلد ، وجهاز المخابرات ، مثل الأجهزة الأخرى التي لا تقل أهمية عنه ، فيكتشفوا بالنهاية أن رجلا مثل عمر سليمان (المنقذ) للثورة المصرية ، كان عميلا لإسرائيل ، حسب تصريح أحد أقطاب مخابراتهم ، ثم ينتقل إلى دمشق فجأة وبدون علم أي قائد أو سياسي عربي ليقتل هناك بسوء عمله .
وما عهد الثورات العربية التي ابتدأت منذ عام 1952م ، والتي وُصمت كلها بالعار ، وهي ما كانت تسمى بثورة الضباط الأحرار بقيادة الملازم جمال عبد الناصر الضابط الغِـرّ الذي لم يكن سوى شابا تجاوز فترة المراهقة بقليل .. ولم يك جرب الحياة ولم يذق للحرية معنى ولا طعما أبدا ، يسانده مجموعة من أقرانه الذين لا يضاهونه لا بالموهبة ولا بالخبرة ولا بالسياسة ولا بالقدرة العسكرية ، إلا ضربا من ضروب الكذب والمخادعة والبهرجة .
وكذلك الحال بالنسبة لرئيس دولة العراق ، فلا يختلف صدام حسين .. كثيرا.. عن عبد الناصر وجعفر النميري ومعمر القذافي ، لأنه هو الآخر كان سببا أيضا في تدمير العراق وحضارة العراق ، وقتل أبناء العراق من العلماء والمثقفين على أيدي الموساد الإسرائيلي ، كان ذلك بسبب الحماقات والتصرف الارتجالي الأرعن الذي ارتكبه صدام ، وهو يعلم بأن الأمريكان كانوا يخططون للإيقاع به من أجل تدمير العراق ، بعد أن انتهى من تنفيذ أكبر المهام التي أوكلوها له ، وهو محاربة إيران لمدة عشر سنوات لم تُحْسَم لصالح أحد ، تماما كما حدث في أفغانستان ، حينما ألبت أمريكا الشباب الأفغاني المسلم على الروس لطردهم من أفغانستان ، على أنهم مستعمرون ، وبالتالي الإطاحة بالملك الأفغاني محمد نجيب ، ومن أجل تنفيذ هذا المخطط عمد الأمريكان إلى مد يد المساعدة بالسلاح والمال ووضع الخطط من أجل تسهيل المهام ، وما أن غادر الروس مهزومين أرض أفغانستان ، كانت الولايات المتحدة قد أعدت للشعب الأفغاني المسلم المسكين الذي كان يتطلع إلى الحرية شركا أوقعوهم به بعد أسابيع قليلة وقبل أن ينعموا بطعم الحرية المزعومة من نير الاحتلال السوفياتي ، بل راحت تضع المخططات ، و تزرع بذور الفتن والشقاق في صفوف الثوار الأفغانيين الذين كانوا شرفاء وأتقياء إلى أبعد حد ، ثم أكملت الشرك بأن وضعتهم على القائمة السوداء هم والذين آزروهم في حربهم ضد الروس من العرب والمسلمين في كل أنحاء المعمورة .
من هنا كنا نرى سريان التيار الثوري ، يجري في عروق أقطاب الثورات العربية المماثلة لها ، والتي تسير في نهجها ، لتنبعث في أوصال دول أخرى مثل ليبيا بقيادة معمر القذافي ، والسودان بقيادة جعفر النميري . لكنها ثورات كانت شأوتها تقل حدة عن ثورة الضباط الأحرار .. بل كانت أخف حدة وقدرة على منازعة الزعيم الأوحد الهيبة والمخادعة التي كان ينتهجها إبان حكمه لمصر ، والكل يعرف أنه زعيم أحمق هو الآخر(وأعتذر من الناصريين الذين ما زالوا يؤمنون بالناصرية إلى اليوم) فقد عاصر وعايش عهدا متميزا ونموذجا متفردا من الفساد المبطن لم يُكْـتَـشفْ إلا بعد وفاته ، شأنه في ذلك شأن كل قضايا الفساد التي لم تكتشف إلا بعد ذهاب أصحابها بتذكرة سفر غير مرجعة إلى جهنم .
جمال عبد الناصر الذي اشتهر بخطبه النيرانية والتهديدات لدول المنطقة ، بل وللدول العظمى مثل أمريكا ، وهو يعلم في قرارة نفسه سيرة أمريكا الدموية في الكون ، ولم تسلم من أذاه ولا تهديداته أيضا لا العروبة ممثلة بزعمائها الرجعيين حسب تعبيره ، ولا الصهيونية المحتلة ، كلاهما بالتناوب ، وكان إعلامه أكثر سوءا منه ، ففي عهد أحمد سعيد الإذاعي المخضرم ، الذي عرف بصوته الأجش ، وانتهاجه أسلوب التهكم والتهديد واستخدامه ألفاظا منفرة للأسماع .. لكنه استطاع من خلال منهج يستخدمه بمفرداته ومصطلحاته وتهديداته أن يجند الرأي العام العالمي سلبا لمناهضة مصر بقيادة زعيمها الأوحد .. حيث مكنت شعاراته الثورية الزائفة ، والأكثر عدوانية في تاريخ الحروب الكلامية .. مثل : ( تجوع يا سمك ، سنلقي بإسرائيل في البحر) أثارت هذه العبارات الرأي العام العالمي وأثارت دهشة الدول الكبرى والتَفَـتَـتْ بجد وحزم نحو تلك التهديدات على أنها بالفعل تهديدات تحمل في طياتها كل معاني الجدية المطلقة ، فأخذتها هي الأخرى على محمل الجد ، وقد توقع العرب بالفعل تنفيذها عاجلا أم آجلا بقيادة الزعيم الأوحد .
والأدهى من ذلك وأمرّ ، هي حماقات ارتكبها في تعاطيه مع ظروف أوضاع عدوان حزيران عام 1967 الذي شنته إسرائيل على كل الدول العربية المحيطة (دول الطوق) حيث لم تكن الدول العربية كلها في ذلك الوقت مستعدة لخوض أي نوع من الحروب مع إسرائيل .. ولتكتمل الصورة المحزنة فقد لجأت إسرائيل إلى ضربات استباقية ومفاجئة لمصر حيث قامت الطائرات الصهيونية خلالها بطلعات جوية مباغتة ، استطاعت من خلالها تحطيم كل الطائرات المصرية وهي جاثمة على أرض مطاراتها ، حين كانت الطائرات المصرية مكشوفة للعيان ، كان ذلك قبل الفجر ليوم سابق من العدوان الإسرائيلي (راجع كتاب تحطمت الطائرات قبل الفجر ) ، فكان انشغال جميع طياريها بحفل ساهر على أنغام الموسيقى الراقصة وبوجود نخبة من الراقصات والمومسات ، وهذه المسألة تحدثت عنها الصحافة والقادة العسكريون لأنها كانت أصلا كانت نتيجة خيانة زعماء وقادة في الحكومة المصرية ، وهكذا واصلت إسرائيل هجومها البري واحتلت العالم العربي كله في خمس ساعات وليس ستة أيام كما يزعم التاريخ العربي .
وأما قادة وأبطال الثورتين الأخريين .. مثل معمر القذافي وجعفر النميري .. فما زلنا نتذكر الموتة الشنيعة التي أودت بحياة القائد الملهم صاحب الكتاب الأخضر ، بأيدي شعبه الذي لم يربطه بقائده أي نوع من الحب والإحترام ، وخاصة بعد أن رفض تسليم السلطة بشكل سلمي للشعب ، انسجاما مع مطالب الثورة التي هبت نارها في بلاده ، وانسجاما أيضا مع ما يسمى بالربيع العربي . وأما جعفر النميري ، فقد طرد من السودان طرد الكلاب ولم يقتله الشعب ، لأن الشعب السوداني شعب مسالم وبسيط ، وهو شعب لم يعرف العالم شعب مسالم وبار بأبنائه مثله ، واسمح لي أيها القاريء العزيز ، أن أشيد هنا بمواقف السيد سوار الذهب الذي تسلم أمانة الحكم في السودان بعد جعفر ، وسلمها بعد انتهاء مدة الوصاية بكل شرف وأمانة ، وكما أسلفت فإن الشعب السوداني لا يحبُّ قتل قادته حتى وإن كانوا مخطئين .
واليوم تتكرر الدراما ، ونرى المشهد الليبي واليمني نفسه يتكرر في سوريا ، ونحن نرى بشار الأسد ، المتشبث بالحكم رغم كل ما ينتظره ، يحاول أن يحذو حذو القذافي ، وسيبقى متعلقا بآخر خيط يبقيه في الحكم ولو على جماجم السوريين كلهم ، فجمجمة بشار الأسد بنظره هي أغلى من هامات السوريين جميعا بل وأشرف من الوطن العربي السوري بأكمله .. وهو العزيز بكل ذرات ترابه الطهور .
من هنا .. فإننا نعي ونعلم بأن أمريكا القمعية قد قامت على العدوان والدم ، تساندها إسرائيل وتسير في ركابها ، وهي الأخرى تقوم على الاحتلال والتوسع ، على حساب شعب شرد وطرد من أرضه ، وبذلك تكون المأساة قد تكررت هنا في فلسطين ، تماما بنفس السيناريو الذي حدث لشعوب الهنود الحمر ، بل فالصهاينة يتطلعون إلى توسعة احتلالهم ليشمل رقعة أكبر من أوطان العالم العربي أجلا أم عاجلا .. من هذا المنطلق فإنه يترتب على قادة وأبطال ثورات الربيع العربي الذين بدأوا بثوراتهم الربيعية ، بعد سقوط آلاف الضحايا ، أن ينتبهوا جيدا بل ويعوا بأنه لن تقوم لهم قائمة ما دامت أمريكا وإسرائيل تهيمنان على العالم ، وأن عليهم الانتظار طويلا قبل أن تفنى أمريكا .. أو أن يُدمر اقتصادها كما يزعم المنجمون ، وعلى هذا الأساس ، فإن على قادة الثورات العربية أن ينتبهوا جيدا مرة أخرى .. وعليهم أن يعلموا علم اليقين ، بأنهم قد يرتكبون خطأ جللا فيما إذا فكروا بطلب مساعدة أمريكا ، في تأسيس دول ثورية تقوم على الديموقراطية واحترام الشعوب كما يدعون ، لأنهم يطلبونها من دولة قامت هي أصلا على الاحتلال والتوسع ، وتلال من الجماجم .. مثل الولايات المتحدة الأمريكية التي أبادت شعبا بأكمله ، وأقامت حضارتها على أرضه .
وإلى أن يأتي اليوم الموعود ، بأمر من الله ، هذا بالنسبة لليهود والصهاينة الذين ما نهضوا وما استفاقوا منذ بدء التاريخ إلا على الغدر والخيانة . والعالم العربي اليوم يتطلع إلى الثورات الربيعية بآمال كبيرة ، وكأنه بمعزل عن تاريخه الملوث الملطخ بالرذيلة والخيانة والغدر وامتصاص دماء شعوبهم المغلوبة على أمرها ، ولم يعي سوى جعجعات أصنام هم أكثر خذلانا ممن سواهم ، ويعرفون ما ينتظرهم من سوء العاقبة . وإذا ما أرادوا نجاحا في مسيرتهم نحو إيجاد مجتمعات وشعوب راقية فعليهم توخي العدل والمصداقية ، وأهم من ذلك فإن عليهم قبل كل شيء التوقف عن تهديد إسرائيل أو تهديد مصالح أمريكا بالمطلق ، بل فإن عليهم أن ينتبهوا جيدا لمخاطر الأخطبوط الصهيوني ومهارته في نشر سمه القاتل بين المجتمعات دون استثناء أحد منها ، ومن ثم التغلغل في شؤون الدول والإمعان في زعزعة معلوماتها المخابراتية ، وعليهم من هذا الجانب ، أن ينتبهوا جيدا لرجالات المخابرات وأن يحذروهم من هذا الخطر الداهم .. بل وكم أتمنى على العالم العربي كله أن يسعى بصدق إلى أخذ مكانة إسرائيل في اهتمامات الغرب وأمريكا وأن يحاول كسبها إلى جانبه بأقصى ما يستطيع ، بدلا من إطلاق التهديدات غير المجدية بين الحين والآخر .



تعليقات القراء

الله محيي الجيش الحر
المقال موجز يا رجل احنا فاضيين نقرأ كل هذه التخرصات الله محيي الثورات العربية والربيع العربي الذي زلزل العروش والمجرمين
25-07-2012 01:16 AM

أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات