تجارة الفقراء


قبل عام تقريبا قمت بزيارة برفقة أحد ممثلي الهيئات الدبلوماسية العاملة بالأردن إلى إحدى تجمعات البدو الرحل في البادية الأردنية , وأثناء الزيارة جلسنا في احد بيوت الشعر المترامية بالصحراء وهناك تقدم طفل صغير لمصافحة رفيقي , وبعد جلسة مطوَّلة هممنا بالمغادرة فاستوقفنا صاحب البيت حاملا بساط أراد تقديمة للضيف , وبعد أن تمتم ببعض الكلمات قدمه له وعلى وجهه إبتسامة حزينه , وعندما ركبنا عائدين قال لي رفيقي : أريد أن أسالك لماذا كان الطفل يرتجف عندما صافحني ؟ ونحن الان بفصل الصيف ؟!
وماذا قال لي الرجل الذي أهداني البساط ؟ نظرت اليه وقلت أما الطفل فهو يرتجف جوعا وليس بردا , واما الرجل فقد قال لك انه لاحظ نظراتك للبساط فأراد أن يهديه لك وهو يعتذر منك لانه فقير ولم يستطع أن يقوم بواجبك , صمت رفيقي برهة ثم سأل - وبصوته نبرة حزن – واين تذهب الملايين التي نقدمها ؟! قلت له إسال اللذين أخذوها .

إننا في الأردن نعيش حالة مؤلمة أحببت أن أُسميها " تجارة الفقراء " , ففي الوقت الذي تعدى الفقر الأفراد والعائلات ليعُم مناطق وقرى ومحافظات , نرى هذا الكم الهائل من الصناديق والهيئات والمؤسسات والوزارات التي ترفع شعار " الحرب على الفقر والبطالة " كمبدأ أساسي في عملها وسياستها , فلو تابعنا المبادرات والشعارات والمنشورات التي تحكي لنا بطولاتهم وإنجازاتهم لظن البعض منا أن الفقر لا يتعدى بضع عشرات من الناس الذين إختارو الفقر زهداً وتصوفاً , ولكن وبكل أسف أقول أن معارك تلك الجهات تشبه معارك
( الدون كيشوت ) التي كنا نشاهدها ونحن صغار ظنّا منا أن مكانها في خيالنا وأحلامنا فقط وليسمح لي الفقراء - وأنا واحد منهم - أن أطرح بعض التساؤلات والتي أعرف سلفا أنها لا تسمن ولا تغني من جوع .

بداية إن الفقر في الأردن يحاربه كل من وزارة التخطيط ووزارة التنمية الإجتماعية ووزارة العمل وصندوق التنمية والتشغيل وصندوق المرأه وصندوق تنمية المدن والقرى وصندوق تنمية المحافظات وصندوق الملك عبدالله للتنمية والصندوق الهاشمي لتنمية البادية ومؤسسة نهر الأردن بالإضافة الى الكثير من المبادرات الموسمية أو الفئوية , وسؤالي هنا ما الحاجة إلى كل تلك الجهات في دولة صغيرة كالأردن معظم سكانه يعيشون على مساحة لا تتعدى 20% من مساحته الكليَّه , وإذا كنا بحاجة فهل يوجد إختلاف جوهري في نشاطها أم انها مجرد نسخ مكرره لا يميزها سوى الإسم والشعار الذي يحمله كل منها , وما هي مصادر تمويلها وما نوع العلاقة بين تلك المؤسسات والجهات الممولة لها وهل الجهات الممولة منظمات خيرية أم أن لها خطط وبرامج يجب تطبيقها والتقيد بها .

كذلك من الملاحظ أن معظم أصحاب القرار في تلك الجهات هم من العنصر النسائي , فهل هي مجرد صدفة ؟ أو لعلها الدقة والكفاءة التي تميز المرأة ؟ أم أننا أمام نادي لسيدات المجتمع الراقي اللواتي يُدرن مؤسساتهن وفق نسق ونظم ومبادي مُعده مسبقا , تنتهي جميعها الى شيخ وطريقة واحده لا يتعدى الهدف منها غير زيادة في ثراء مجموعة من الأشخاص اللذين لا يربطهم بالفقراء غير كاميرا تلفاز هنا وغلاف مجلة هناك .

لا أريد الخوض في البحث عن أجوبة لتلك التساؤلات فهي كما قلت سابقا لا تسمن ولا تغني من جوع ولكن يكفي القول أننا معشر الفقراء ومع وجود كل تلك الجهات لم نرى غير مزيدا من الفقر والبؤس حالنا كحال القائل ( أسمع جعجعة ولا أرى طحنا ) , فيا من تتاجرون بفقرنا يا من تتباكون على بؤسنا هنيئاً لكم قصوركم وحفلاتكم وأزيائكم ورحلاتكم وأدام الله عليكم نعمة فقرنا ونعمة صمتنا .



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات