كشف الاكتشاف


 أستطيع أن أكتم إعجابي بما يتحلى به البريطاني غيفين منزيس من روح العزيمة، وحسّ الثبات، وصلابة اليقين، والرغبة العارمة في البرهنة على صحّة اجتهاد جديد هائل، يستهدف تقويض واحدة من كبرى المسلمّات العامة، الراسخة رسوخ الرواسي في الحوليات التاريخية والملاحية والعلمية. وقبل ستّ سنوات كان منزيس، وهو ضابط بحرية متقاعد، قد طلع على العالم بنظرية مثيرة مفادها أنّ الأساطيل الصينية هي التي اكتشفت أمريكا، وليس كريستوفر كولومبوس والبعثة الإسبانية. أكثر من ذلك، أكد منزيس أنّ الأساطيل الصينية وصلت إلى أمريكا قبل سبعين سنة من وصول كولومبوس، وبلغت رأس الرجاء الصالح (أي أتمّت دورة إبحار تامة حول العالم) قبل الملاح البرتغالي فرديناند ماجيلان، واكتشفت القطب الجنوبي، ثمّ بلغت أوستراليا قبل 300 سنة من وصول المستكشف البريطاني جيمس كوك إليها.

ولعلّ بعض القرّاء يتذكرون الضجة التي أثارها منزيس حينذاك، في صفّ أهل التاريخ الغربي عامة، والأمريكي خاصة، حين طرح تلك الفرضيات الثورية في محاضرة ألقاها مطلع سنة 2002 في لندن، ثمّ طوّرها في كتاب بعنوان "1421: سنة اكتشاف الصين للعالم" سرعان ما تصدّر لوائح الكتب الأكثر رواجاً في العالم بأسره، فضلاً عن أمريكا بالطبع. وللمرء أن يتخيّل الأسباب دون عناء، إذْ ليس من السهل أن تباغت الأمريكي (ذاك المتوسط تحديداً، المتديّن والمحافظ والمتشدد) بأنّ "الكَفَرة" من أتباع كونفوشيوس هم الذين وصلوا إلى أمريكا أوّلاً، قبل الحجّاج من طلائع المسيحيين البيوريتانيين؛ وأنّ الصينيين أولئك، وليس الحجّاج هؤلاء، هم الذين شيّدوا البرج الحجري في نيوبورت، ونحتوا الصخرة الشهيرة في دايتون، ورفعوا عماد تلك الشواهق في نيو سالم!

يروي منزيس أنّ الحكاية بدأت في الثامن من آذار (مارس) سنة 1421، حين أقلع الأسطول الصيني الضخم (أكثر من 50 سفينة، طول الواحدة منها لا يقلّ عن 16 متراً، مصنوعة من أفضل أخشاب شجر الساج)، بقيادة شينغ هي، كبير أميرالات البحر في عهد الإمبراطور القويّ جو دي. وأمّا المهمة فقد كانت بلوغ أقصى أرجاء البحار والمحيطات، لجمع الأتاوات من "البرابرة"، وفرض الديانة الكونفوشية على البشر (وهذه، في الجوهر الكولونيالي والديني، لم تكن بعيدة عن مهامّ كولومبوس!). ولقد دامت الرحلة سنتين، تعرّض خلالها الأسطول لكلّ أصناف الأهوال والمصاعب، وغرقت معظم السفن، وكانت الخسائر البشرية جسيمة أيضاً. وأمّا التفصيل الأهمّ فهو أنّ السفينتين اليتيمتين اللتين عادتا إلى الصين، وجدتا البلاد في غير الحال التي كانت عليها قبل إقلاع الأسطول: الإمبراطور مريض، مفلس، ضعيف السطوة، غير ممسك بمقاليد الأمور؛ والصين غارقة في عزلة عن العالم الخارجي، فُرضت ذاتياً، ودامت قروناً طويلة.

مؤخراً، في سياق عزيمته وتعطشه إلى إماطة اللثام عن حقائق التاريخ التي تبدو مسلمات راسخة، أصدر منزيس كتاباً ثانياً بعنوان "1434"، يسير عنوانه الفرعي هكذا: "سنة أبحر أسطول صيني رائع إلى إيطاليا وأشعل جذوة عصر النهضة". وهكذا، يساجل منزيس بأنّ سفراء إمبراطور الصين وصلوا إلى توسكانيا سنة 1434، فاجتمعوا مع البابا يوجينوس الرابع في فلورنسا، وأهدوه ثروة نفيسة من المعرفة، في ميادين الجغرافيا (بما في ذلك الخرائط التي يعتقد منزيس أنها مُرّرت إلى كولومبوس، والفلك، والرياضيات، والطباعة، والعمارة، وصناعة الفولاذ، والهندسة المدنية، والتسليح العسكري، والمساحة، ورسم الخرائط، والفنون... ويجهد المؤلف للبرهنة على أنّ هذه الهدية كانت الشرارة التي أشعلت روح الإبتكار في عصر النهضة، وكانت وراء اختراعات دافنشي الميكانيكية، وثورة كوبرنيكوس، ومكتشفات غاليليو، وسواها.

في كلّ حال، بالعودة إلى اكتشاف أمريكا، وأياً كانت جنسية الأساطيل الوافدة، نعرف اليوم أنّ الغرباء جاؤوا إلى أرض لم تكن قفراً خالية من البشر والزرع والضرع والحضارة... الحضارة الحقّة المتقدّمة. ومن حيث المعمار والحياة السياسية والإقتصادية، كانت قبائل الـ "إروكوا" قد عرفت النظام الفيديرالي، أو الكونفيدرالي ربما، حين نجحت في إقامة كيان سياسي مؤلف من اتحاد خمس قبائل (سوف يعتبره توماس جيفرسون نموذجاً لما ينبغي أن تكون عليه الحياة التمثيلية). وتمكنت حضارة الـ "مايا" من تطوير الزراعة إلى درجة أتاحت مساحات استقرار واسعة، وتشييد أكثر من مائة مدينة، وإنتاج الذرة والفاصولياء والفول والكاكاو والبطاطا والقطن والتبغ، وذلك بأدوات بدائية وفي غياب حيوانات الجرّ والحمل. وقبائل الـ "بويبلو" عرفت عمارة متطورة مدهشة، وشيّدت في بويبلو بونيتو أولى أضخم "شقة سكنية" في تاريخ تلك الحقبة (800 غرفة، بأربع طبقات، وطاقة استيعاب أكثر من 1200 ساكن). قبائل الـ "إنكا" طبّقت المبدأ المشاعي في استثمار الأرض، ونجحت في إقامة أنظمة ريّ متطوّرة تماماً، وشيّدت صوامع الحبوب، والأبنية الشاهقة...

وبالطبع، لا ننسى البتة أنّه، في العام 1600، لم يتبق من أعداد الأقوام الأصلية سوى العُشر، وقضى أكثر من 90 مليوناً في ساحات القتال، أو على أعواد المشانق، أو ضحايا الأوبئة (التي جلبها الغزاة، كما يقول التاريخ). ذلك هو سجلّ "الإكتشاف" الأوروبي، ولا ندري ما الذي كان التاريخ سيدوّنه في السجلّ الصيني لو أنّ الأساطيل عادت فوجدت الصين قويّة، كولونيالية، عالية الشهوة للغزو والإخضاع والإبادة!



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات