حقيقة الازمة في الاردن


تصف القوى السياسية الاردنية وخاصة المعارضة الازمة الحالية في الاردن بأنها ازمة حكومات وفي حدها الاقصى أزمة حكم، وهو توصيف يبدو سطحيا ولا يقدم تشخيصا حقيقيا للازمة التي هي في الاساس أزمة تاريخية وهي ازمة الدولة التابعة؛ فمنذ تأسيس الدولة كامارة عام 1921 وبقرار خارجي نجم عن تسويات ما بعد الحرب العالمية لاولى، ارتبط الاردن سياسيا واقتصاديا بالخارج، فعلى المستوى السياسي كانت امارة شرقي الاردن ضمن منطقة انتداب بريطانيا التي شملت ايضا العراق وفلسطين، وحتى بعد اعلان استقلال الامارة عام 1946 بقيت علاقة التبعية مع بريطانيا من خلال معاهدة عام 1946 التي ابقت الاردن تحت نفوذ بريطانيا سياسيا وعسكريا، وكان السفير البريطاني يلعب دورا كبيرا في ادارة شؤون البلاد، بالاضافة الى الدور الذي كان يلعبه كلوب باشا كقائد للجيش وكمتحكم في الحياة السياسية حيث كان يشرف بشكل مباشر على تعيين الحكومات، وعلى ادارة الانتخابات النيابية، واستخدام الجيش في عملية التصويت لاسقاط المعارضين كما حصل بشكل صارخ في انتخابات عام 1954. وعلى المستوى الاقتصادي لم تخل اي موازنة للدولة منذ عام 1921 وحتى الان من بند المساعدات الخارجية.
وبعد صدور قرار تعريب قيادة الجيش الذي اتخذه الملك حسين في الاول من آذار عام 1956، وبعد أن اصبحت كلفة بقاء كلوب مكلفة بعد الضغط الذي مارسته مختلف أطراف الحركة الوطنية الأردنية، وظهور كلوب كملك غير متوج في الاردن وهو ما سبب احراجا كبيرا لمؤسسة العرش داخليا وخارجيا- عاش الاردن ربيعا وطنيا وقوميا زاهرا تمثل في اجراء أول انتخابات نيابية على أساس قانون جديد حظر على الجيش التصويت، فكانت أول انتخابات حرة وتعددية ونزيهة في تاريخ الاردن نتج عنها فوز المعارضة بأغلبية برلمانية مكنتها من تشكيل أول وآخر حكومة ائتلاف حزبي برئاسة سليمان النابلسي، هذه الحكومة التي شهد عهدها القصير انجازات وطنية وقومية مشهودة كان على رأسها الغاء المعاهدة مع بريطانيا وتخليص الاردن من آخر اشكال التبعية لبريطانيا. وقد حاولت هذه الحكومة شق طريق جديد للأردن أكثر استقلالا من خلال خيارات وطنية وقومية مناهضة للنفوذ الغربي، الا أن هذه التجربة وئدت وتم اسقاط هذه المرحلة من النهوض الوطني والانقلاب عليها بعد أن طرح ايزنهاور مشروعه لملئ الفراغ في المنطقة، وهو المشروع الذي رفضته الحكومة وكافة القوى السياسية، الا أن الملك حسين اختار ادخال الاردن في هذا المشروع، وتوطئة لذلك تم اقالة حكومة النابلسي، وحل الاحزاب واعلان الاحكام العرفية، فسادت علاقات الصراع والتناقض بين النظام والحركة السياسية، وتشوه التطور المفترض للبناء المؤسسي للدولة والمجتمع، ومنع تطور الفكر الفكر السياسي باتجاه ديمقراطي، وصولا الى اضعاف قدرة الاردن في التطور والبناء والتقدم الاقتصادي والاجتماعي والسياسي على قاعدة التراكم.
وفي عام 1989 ونتيجة لتعمق الازمة الاقتصادية والسياسية انتفض الاردنيون في نيسان في محاولة جديدة لاعادة اطلاق المشروع الوطني الديمقراطي، فكان الانفراج الذي سمح باجراء انتخابات عكست الى حد ما موازين القوى السياسية والاجتماعية مبشرة بانطلاقة واعدة، الا ان هذه التجربة لم تكتمل ايضا فتم الانقلاب عليها، وكان واضحا انها كانت عملية احتواء للازمة اكثر منها تعبيرا عن نهج حقيقي في الاصلاح، فكان الانقلاب الثاني الذي جمد الحياة السياسية من خلال سلسلة اجراءات وقوانين حولت السلطة التشريعية الى مجرد ديكور وأداة في يد السلطة التنفيذية، والتي اخذت ايضا تفقد ولايتها العامة لصالح مراكز قوى امنية وسياسية واقتصادية أفسدت الحياة السياسية وارتهنت اقتصاديا من خلال تنفيذ برنامج صندوق النقد الدولي في الخصخصة وانسحاب الدوله من دورها الاقتصادي والاجتماعي، وما صاحب ذلك من تضخم للفساد حتى اصبح نظاما اقتصاديا بديلا كاملا، فزادت معدلات البطالة والفقر والتهميش وارتفعت معدلات العنف الاجتماعي والجريمة.
وجاءت احداث عام 2011 في المنطقة التي عرفت بالربيع العربي لتشكل فرصة جديدة لاعادة الزخم للفعل الشعبي والسياسي في محاولة لاعادة الامور الى نصابها، وبدا اننا نؤسس لمرحلة جديدة من العلاقة بين السلطة والشعب تعيد الاعتبار لسلطة الشعب ولمؤسساته الدستورية، وانخرط الاردنيون في حوارات معمقة ، وحراكات اصلاحية قدمت تصورا لشكل الدولة الحديثة القائمة على مبدأ سيادة القانون، وسيادة الشعب، ومحاكمة النهج الاقتصادي والسياسي الذي عمق أزمة البلاد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، فكانت التعديلات الدستورية، والاصلاحات الادارية مؤشرا على بداية التحول في اتجاه الاصلاح، الا ان التباطؤ في استكمال منظومة الاصلاح، والتغيير المتتالي للحكومات دل على ان النية للاصلاح الحقيقي غير متوفرة، وأن ما تم اجراؤه لم يكن اكثر من محاولة لاحتواء الاحتجاجات الشعبية، وقد جاء تشكيل الحكومة الاخيرة التي تعتبر من اكثر الحكومات تقليدية ومحافظة دليل على ان النظام غير جاهز بعد لاصلاح حقيقي خاصة بعد انحسار موجة ما سمي الربيع العربي، وكل المؤشرات لا تبدو مشجعة بل تدل على بوادر انقلاب جديد، من خلال اصدار قانون انتخابي لا يختلف جوهريا عن القانون الحالي، خاصة وان تركيبة مجلس النواب وأدائه لا تبعث على التفاؤل بامكانية اصدار قانون متقدم يسمح بتغيير قواعد اللعبة السياسية، وهو ما يؤكد على صحة القول أن الازمة في الاردن أزمة دولة في الاساس، فالدولة التابعة غير قادرة على شق طريقها وبناء مشروعها الوطني الديمقراطي المستقل، وتبدو أزمة الحكم والحكومات وحتى القوى السياسية مجرد انعكاس لهذه الازمة البنيوية. مما يعني اننا سنبقى ندور في حلقة مفرغة.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات