محمودٌ أبو فروة الرّجبيّ


من الأمور المضحكة المبكية أننا – المسلمين- نظن أننا أكثر أمم الأرض إنفاقاً على عمل الخير، لكن الإحصائيات تقول عكس ذلك، ونفاجأ، بأن الشعوب الغربية العلمانية في معظمها هي من تتصدر قائمة المتبرعين، بل وعلى حين غفلة منّا يدخل مفهوم المسؤولية الاجتماعية – أو المجتمعية حسب بعض الترجمات- ليجعل من عمل الخير مؤسسياً، ومطلوباً من الشّركات، والمؤسسات والأفراد.

ربّما كان الإسلام هو أول دين، ونظام اجتماعي متكامل يفرض على الأغنياء، ومالكي النصاب المالي المحدد، نسبة ممّا يملكون لإنفاقه في مصارف محدّدة تصب في معظمها في جيوب الفقراء، ولتحقيق احتياجاتهم، ولعل هذه النسبة تعد كبيرة، وقادرة على تحقيق احتياجات كثيرة للناس، ولكن هل فعلا يدفع المسلمون الزكاة؟ وهل استطاعوا التقاط هذا الحكم الشرعي العظيم، وتطوير أدوات تطبيقه لتحقيق أهداف الشرع الكريم؟ أم أنهم كالعادة يتعاملون بكسل مع هذه المنتجات الحضارية، ولا يقومون بأيّ تطوير في أساليب تطبيقها، ولو بعد ألف سنة، اعتماداً على مبدأ الاتكاء على التراث في كل شيء، حتى في ردود الأفعال على الأشياء؟

مفهوم الزكاة مدهش بالمقاييس جميعها، فهناك إجبار لكي يكون جزء ممّا تملك لغيرك، وكأنه شريك لك فيه، وهذا مفهوم راقٍ، وإذا نظرنا إلى وقت تطبيقه فإننا ندرك حجم التطور الإنساني، والأخلاقي الّذي حل بالمسلمين بسببه، لكن العقل الجمعي المسلم، وكما نردد دائماً بارع في غالب الأحوال بتحويل أكثر الأشياء جمالاً، وفعالية إلى العكس.

من خلال الواقع الّذي يعيشه الفقراء في العالم الإسلامي، وعن طريق الخبرة الذّاتيّة، ومن عملية استقراء للعمل الخيري، والإطلاع على إنجازات صناديق الزكاة في بعض دول العالم الإسلامي سنلاحظ ما يأتي:

أولاً: أن هناك نسبة قليلة جداً من المسلمين تدفع الزكاة، وغالبية هؤلاء – دافعو الزكاة- من الفقراء، ومتوسطي الحال، ويكفي القول ان هناك بعض الأشخاص من الأثرياء جداً ممن يدفعون زكواتهم كاملة، يظهرون بالمجتمع ولو لم يرغبوا بذلك، بينما لا نسمع شيئاً عن أصحاب مئات، وعشرات الملايين، وجزء منهم من المتدينين جداً، ولنفرض ان أحدهم قال إنهم يتبرعون لاقربائهم الفقراء، فأقول شخصيّاً وضمن خبرتي المتواضعة في العمل الإعلامي الخيري أنني اعرف عائلات فقيرة جداً لا تستطع دفع أقساط أبنائها في الجامعة، في المقابل لديها أثرياء جداً، وقد كنت أفاجأ أثناء عملي في حياة FM حينما يأتي من يطلب مساعدة، خاصة في مجال الأقساط الجامعية حينما اكتشف ان مليونيراً من أصحاب (عشرات الملايين) هو من أقرب أقربائه، وأفاجأ أكثر حينما اعلم أن هذا المليونير متدين، بل واصدم حينما اعرف أنه يعلم بهذه الحالة، وأنه لم يعرض حتى المساعدة فيها.

ثانياً: بعض المسلمين من الأثرياء جداً يستعيضون عن دفع الزكاة، بالتسبيح، والصلاة، والذكر، وقراءة القرآن الكريم، والقيام بأعمال تعبدية أخرى، لا علاقة لها بالإنفاق المالي، ومن الجميل ذكر مثال على ذلك، فأنا اعرف مليونيراً يتعامل مع أكثر من ثلاثين أو أربعين مليوناً، ويعمل في مجال المعاملات المالية العالمية، وقد كنت أراه يصلي الفجر في المسجد، ويأتي قبل صلاة الجمعة بوقت طويل، وذكر لي مقربون منه أنه يختم القرآن الكريم عدة مرات شهرياً، وحينما تعرضت طفلة أحد العاملين لديه لمرض مميت، وكانت بحاجة لمبلغ لا يتعدى الألف دينار لإجراء العمليّة رفض حتى اقراض والدها المبلغ، ولو افترضنا أنه يدفع الزكاة، لما تردد في ذلك.

ومن خلال تحليل هذا النموذج الّذي قد يتكرر كثيراً، نلاحظ أن طبيعة عمله تجعله يمتلك الوقت الكافي، وهو يفضل التعبد بطريقة لا دفع فيها، وهذا جعلني أفكر جلياً في الآية الكريمة: ( لن تنالوا البرّ حتّى تنفقوا ممّا تحبّون ) [آل عمران: 92].

وقبل الدّخول في تحليل وتفسير هذه الآية، لا بدّ من الإشارة إلى ما جاء عن أنس -رضي الله عنه- قال : كان أبو طلحة رضي الله عنه أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان -رسول الله صلى الله عليه وسلم- يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب .

قال أنس : فلما نزلت هذه الآية : ( لن تنالوا البرّ حتّى تنفقوا ممّا تحبّون ) قام أبو طلحة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال : يا رسول الله، إن الله تعالى أنزل عليك : ( لن تنالوا البرّ حتّى تنفقوا ممّا تحبّون ) وإن أحب مالي إليّ بيرحاء، وإنها صدقة لله تعالى أرجو برها وذخرها عند الله تعالى ، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله .

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( بخ! ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين )) .

وأمّا البر فهو وحسبما جاء في بعض التفاسير ومنها تفسير السعدي: كل خير من أنواع الطاعات وأنواع المثوبات الموصل لصاحبه إلى الجنة.

هذا كله يعني ان المسلم مأمور إضافة إلى ما فرض عليه من زكاة، أن ينفق من أحب ماله إليه، والمال مفهوم شامل، فإذا كان أغلى ما عندي وقتي، فيجب ان أتبرع منه إضافة إلى الزكاة المالية، أمّا إذا كان المال أحب الي من أي شيء آخر، فلا يجزئ لي أن اعبد الله ليل نهار بما لا يكلفني مالاً، وهذا يضعني في دائرة من التساؤل، ووقتها حري بي ان أفكر كثيراً بالموضوع.

وللأسف فإن الخطاب الإسلامي لا يتطرق، ويركز على هذه النّقطة، فنحن نرى ضخاً وعظياً هائلاً في المسجد، وفي مختلف وسائل الإعلام، بينما لا نرى انعكاسا كبيراً على الواقع، وفي النّهاية يبقى المتبرعون المتحسمون لأعمال الخير هم أنفسهم، وقلما يتحرّك غيرهم.

ثالثاً: بعض الأثرياء يمتلكون حججاً غريبة يقنعون بها أنفسهم كي لا يدفعوا الزكاة أو الصدقات مثل: الجمعيات الخيرية فيها سرقات، الفقراء الّذين يطلبون الزكاة كاذبون، و(يدكنون المال) أي يكنزون المال، ويخبئونه، بل ان بعضهم حينما تخبره ان قريبه سيفصل من الجامعة لأنه لا يستطيع دفع القسط يقول لا: لا أريد أن احرجه وادفع عنه، مع ان هناك ألف طريقة لفعل هذا الأمر دون أي إحراج.

رابعاً: في المقابل هناك من يدفع الزكاة، ويتحرى الدقة في ذلك، بل ويتحرق شوقاً لزيادة ثروته بهدف زيادة ما يدفعه من مال للفقراء، ولكن هؤلاء قلة قليلة، لم تصل إلى ان تكون ظاهرة كبيرة في المجتمع – في غالب الأحيان طبعاً-.

ومن هنا فإن لدي اقتراحات على صناع الخطاب الإسلامي لتطوير المادة المقدّمة حول هذا الموضوع لعلنا ننجح في استثارة النّاس من أجل دفع الزكاة، خاصة أننا نعيش في أجواء استثنائية، وفقر أصبح هو الأصل في الحياة.

أولا: التركيز على وجوبية الزكاة، وأن الإنفاق يكون ممّا تحب، وأنه لا يكفي ان تقوم بالعبادات الّتي تعجبك، وتنتقي من الدين ما يوافق هواك، وشهواتك.

ثانياً: التشديد على أن هناك مسؤولية دينية وإنسانية على كل إنسان نحو أخيه الإنسان، وأنه من العار أن يبقى بيننا جائع، وفقير، وأركّز للمرة الألف على طلبة الجامعات الّذين يطردون من جامعاتهم بسبب الأقساط، وحقيقة وليعذرني الأخوة هذا عار كبير علينا.

ثالثاً: لا بدّ من تطوير أدوات إنفاق الزكاة للوصول الى تكامل مع مفهوم التطوع بالوقت، والجهد والمهارة، لندرب الفقراء، والطامحين منهم خاصة على إنشاء مشاريعم الصّغيرة كي يتحولوا من مستقبلين للزكاة إلى دافعين لها، واتساءل هنا أين مفهوم المؤاخاة الّذي نتحدث عنه، ونشير من خلاله إلى قصّة المؤاخاة بين المهاجرين والانصار في المدينة المنورة؟ هل يمكن ان نرى رجل أعمال يتبنى شاباً فقيراً طموحاً، ويعلمه التجارة، ويعطيه ما يجعله ينطلق في عالمها من باب الإنفاق ممّا تحب (وهو هنا المهارة، وأسرار التجارة)؟

هذه بعض الاقتراحات، لعلنا نصل إلى مجتمع متكافل بالزكاة، والصدقات، والأهم من ذلك مجتمع يجعل الفقير قادراً على اصطياد السمك، بدلاً من تسوله، وبقي ان نشير إلى ان الودائع لأجل في بنوك الأردن تصل إلى عشرين مليار دينار، وزكاتها تكون بالتحديد 500 مليون دينار.. ترى هل وصل عمل الخير لدينا إلى هذا الرقم إذا تجاهلنا البضائع، وعروض التجارة، والأراضي، والذهب الّذي يستحق الزكاة أيضاً؟

مجرّد تساؤل.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات