صعاليك الصحراء!


الأرجح ان التاريخ في عصرنا يستعيد نفسه على نحو كوميدي، ونادرا ما يحدث ذلك تراجيديا، والشاطر الجديد ليس شبيها بالشاطر القديم، رغم انه من صلب سلالته ثقافيا واخلاقيا وربما جينيّا، تماما كما ان الصعلوك الجديد هو على النقيض من سلفه الصحراوي، فلا علاقة بين أفّاق شبه مُتسول في أيامنا وبين عُروة بن الورد الذي كان يودع الشمس كل يوم كما لو انها لن تعود، والقبيلة الحديثة ايضا هي على النقيض من جدّتها، فالأولى كانت تنحر الابل وتقرع الطبول اذا ولد لها شاعر لأنه سيذود عنها، اما القبيلة الحديثة فهي سواء حملت اسم دولة او حزب تئد شعراءها في المهد، واحيانا تقايض منظومة قيمها كلها بشاحنة قمح !

لقد كتب في تاريخنا الكثير عن الشطار والعيّارين لكن ما كتب حديثا هو مفارق تماما من حيث الرؤية لهذه النماذج التي اعاد التاريخ انتاجها بل تصنيعها من فضلات الحكايات، وما علق بها من غبار ونشارة كتب لا خشب !

الشّطار الجدد قدر تعلّق حرفتهم بالثقافة، هم احفاد نُجُب للحطيئة وثالوث النقائض الأموي، وبضاعتهم هي اللسان الذي ينبع من المعدة لا من الدماغ، لهذا يعتاشون على مقايضات بدائية، ويعقدون صفقاتهم السريّة التي سرعان ما تفوح رائحتها وتصبح علنية مع من يدفع، وان كانت الكاتبة البريطانية التي افتضحت ثقافة الحرب الباردة قد تحدثت عن الزمار فإن الراقصة والطبّال لهم حكاية اخرى، تمّ التواطؤ عليها لأسباب معروفة، منها ان اللص هو القاضي وان الشاهد قد اطبق فمه وأغمد لسانه مقابل أجر، واحيانا لا يستطيع النطق لأن فمه مليء بالماء او غير الماء !

صعلوك الألفية الثالثة ليس شاعرا بريّا انسحب من المدينة الى الصحراء، ولا هو فارس يقسّم جسمه في جسوم كثيرة ويحسو قراح الماء والماء بارد كما قال ابن الورد. انه صبي المؤسسة وخادمها، وهو أيضا الواشي المحترف الذي يأتي بالأخبار لمن زوّده... اما من لم يزوّده فعليه ان يتّقي العقاب! وهذا الصعلوك الداجن على عتبة الدولة او الحزب او القبيلة الحديثة ليس لديه هاجس وجودي، ولا يعرف العصيان الا اذا كان ضميره في لحظة الصحو ان أزفت، فهو على النقيض من صعلوك الصحراء الذي إن لم يجد السهم شدّ ذاته الى القوس وأطلقها، فهو لا يطيق الحياة صدى وظلا، وانفعالا فقط، لأن خروجه عن السّياق بل عن النّص الاجتماعي والسياسي برمّته كان تعبيرا عن أشواق عالية لاجتراح حريّة محلوم بها في زمن تحول الانسان فيه الى رهينة! والصعلوك الجديد يلوذ بالرصيف لا بالصحراء او البراري كي يصبح مرئيا بوضوح، لكنه مجرد عصا رخوة بعكس الصعلوك الأول الذي كان رمحا مغروزا في الرمال تحت عراء السماء! وإن حدث للصعلوك الجديد ان استعصى على الاستئجار او البيع فذلك لرفع التسعيرة فقط، وهذا ما يفسر نهايات بائسة وكوميدية لصعاليك سياسة وثقافة انتهوا الى أقصى اليمين بعد أن كانوا يدينون غير الأعسر ممن يكتبون باليمنى لفرط يساريتهم المراهقة، والمعدّة للاستدارة مئة وثمانين درجة عندما تفتح البورصة السياسية أبوابها !

"""

الشطّار المعاصرون سواء امتطوا بغال السياسة أم أفراس القصب الشعرية، ابتدعوا فيزياء جديدة يصبح فيها الطريق الاقصر بين قمّــــتين هو الطريق بين هجاء مُتنكر ومديح كاذب، والمهنة القديمة التي اوصى بها شيخ المتسولين احفاد سلالته جرى تصنيعها واضافت اليها منجزات التكنولوجيا أدوات وتصورات أهّلَتها للتأقلم مع هذا الزمن، ولم يتبق امام هؤلاء المحترفين ورواد فِقْه الممالأة والتّلفيق، والتقويل الا أن يؤلفوا كتبا من طراز كيف تصبح مليونيرا في اسبوع او كيف تتقن اللغة الالمانية في شهر واحد... هذه الكتب التي نترقب صدروها هي من طراز كيف تصبح شاعرا تترجم نصوصه ولا يفوته مهرجان واحد شرقا وغربا خلال عام واحد... او كيف تحشد حولك حاشية من عارضي الكتب والنّقاد الذين لا يقرأون غير كلمة الناشر على الغلاف الأخير، وبالتالي كيف تستثمر وقتك في كتابة الرسائل الهاتفية بدلا من تبديده في القراءة والتأمل!

ان كثيرا من المهن كان الناس ينظرون اليها باستهجان وما كان عادات سرية اصبح عادات علنية، وتم الاعتراف حتى بالجاسوس والبغي والقوّاد لكن بعد ان استبدلت اسماء هذه المهن، وطليت بمساحيق تجميلية جعلتها قابلة للتضليل والتسويق! وثمة معالجة حديثة لظاهرة الشطار قدّمها الروائي خيري شلبي لكنها اقتصرت على السّاسة والوصوليين ممن امتطوا احلام الشعوب في أزمنة القطاع العام، ثم عادوا ليمتطوا الاحلام ثانية في زمن الخصخصة والقطاع الخاص! والبُعد الثقافي لظاهرة الشطّار الجدد يعرفه جيدا وزراء ثقافة ومدراء مهرجانات، وكتّاب تقارير عبر مختلف القنوات، لكن التستر على الشطّار يهدف الى ادامة الوظيفة، فالكشف عن المستور ليس من مصلحة المؤسسة او الطرف الذي يستخدم هؤلاء.

ان الفارق بين الشاعر والشاطر لم يعد يتحدد نقديا وجماليا، لأن النقد افراز حضاري ومحصول ثقافي ديموقراطي لم يتبلور حتى الان كمهنة، ونحن نعرف ان لكل شاطر ناقده، وهو ايضا من الشطار الذين يجهلون بدهيات النقد لكنهم يتقنون لوغاريتمات النفاق وتدليك العواطف !

ان الكف عن تقصي هذه الظواهر الوبائية في حياتنا وثقافتنا هو تواطؤ مع سبق الاصرار، واذا كانت الكتابة عن هذه الظواهر ورصدها لا تخلو من الحاح او تكرار، فلأن الظواهر ايضا تتفاقم، وتصبح العدوى سريعة الانتقال من جيل الى آخر وقد لا يسلم منها حتى من يعيشون في أقصى العزلات !

"""

لم يعد الشاطر الذي اغتصب حيّز الشاعر يتحدث عن تجربته او حتى عن نصوصه، بل عن عدد المقالات التي كتبت عن هذه النصوص حتى لو كانت مجرد عروض سطحية لا طائل من ورائها، اما الوهم الآخر الذي بدأ يتحالف مع بقية الأوهام فهو الترجمة الى لغات أخرى، ويغيب عن معظم الشطّار ان من يقرأون ما يكتبون بلغة أخرى قد لا يزيد عددهم عن خمسة هم الناشر والوسيط والمترجم اضافة الى الشاطر وصديقته ان كان له صديقة !

وقد لاحظت مرارا ان الشطار يتهربون من أي حوار جمالي، ويفضلون الكلام عن أي شيء آخر، تماما كما قال بيكاسو عن الفنانين الذين يقضون الوقت في الحديث عن اسعار الورق والألوان والفرشاة وأجرة صالات العرض وثمن اللوحات !

ان المثقف المُبتَلى بهاجس المساءلة الفنية يجد نفسه مرفوضا اذا اصرّ على الخروج من هذا المدار العقيم الذي غالبا ما تكون مادته النّميمة، وقد يردد الشطار بينهم وبين انفسهم قائلين ان هذا المسكين صدّق ما قرأ، وأخذ المسألة على محمل الجدّ بينما هي مسألة بالغة البساطة تتلخص في المهارة وارتداء طاقيات الاخفاء واتقان التقمّص، واكتساب عادات وطقوس توحي للانسان البريء بأن الشاطر شاعر وان البصلة قرنفلة وان العصا ناي !

"""

ان شاعرا تحوّل عظمه الى رميم لكنه يواصل الاشعاع من القبر قد يكون اكثر حداثة من شاطر يرتدي الجينز ويبرطع في أروقة فندق كعجل التهم حصته وحصة امه من العلف، فالشكلانية اقترنت بأكثر العصور انحطاطا عندما تنعطب البوصلة الاخلاقية وتعم العدمية ويأكل المرضى موتاهم والعصر الذي نعيشه بمكابدة سجناء وشقاء منفيين في عقر اوطانهم هو عصر انحطاط بامتيازين، أولهما انه مطليّ بقشرة الحداثة وثانيهما أنه يجهل انه جاهل، وتلك هي الموعظة السقراطية التي تنبعث الان، وبعد اكثر من خمسة وعشرين قرنا .

ولأنه زمن أعمى فإن الكسيح الذي يمتطي ظهره ليدله على الطريق يزعم بأنه أزرق اليمامة، لأن زرقاءها ولّت منذ زمن طويل، وفاضت ايديولوجيا الذكورة لتشمل كل شيء وتحول الجامعة الى جامع والغابة الى حديقة خلفية داجنة لمخفر شرطة او مؤسسة اعلامية تحترف التضليل !
ان الصعاليك الان بلا صحراء، والشّطار يجيدون عدة لغات لكن وفق المعجم السياحي الاستجدائي الذي يمرغ أنفه على عتبات ما تبقى من ثكنات الاستشراق !

" شاعر وكاتب من الاردن



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات