"أخوان" مصر الى أين؟!


زج الدين في السياسة وصراعاتها ، اقرب وصفة لتفتيت المجتمعات ، وزرع بذور التنافر والانقسام بين أبنائها.وأظن أن العرب أكثر الشعوب معاناة من هذه الاشكالية منذ 1400 عام ونيف وحتى الآن ، اذ لطالما استخدم الدين أو اختطف من قبل جماعات معينة للاستئثار به بهدف السيطرة على الدولة والنظام السياسي . الحكم باسم الدين يقود في أغلب حالاته الى واحد من احتمالين كل منهما أسوأ من الآخر للمجتمع حاضرا ومستقبلا .
الاحتمال الأول ، دولة يحكمها نظام توتاليتاري يستند الى الدين وباسمه ، والثاني جر المجتمعات الى انقسامات مذهبية وطائفية وعقدية ، وتهيئتها للتناحر الذي قد يفضي الى الاقتتال عندما تتوفر شروطه وظروفه.
الحكم باسم الدين في مجتمعات متعددة العقائد ، يستصحب بالضرورة ادعاء احتكار الحقيقة، وتصنيف الناس بين كافر ومؤمن، مما يدفع أتباع الأديان المختلفة الى الرد على التحدي بمثله ، وهكذا ينشأ الانقسام الديني الطائفي في المجتمع . كما أن الدين –أي دين على مر التاريخ - لم يمنع الصراع بين الجماعات والأحزاب المنضوية تحت رايته . وبما أنه - أي الدين- اداة للسيطرة والاستحواذ على السلطة ، عادة ما تنشأ بين هذه الأحزاب والجماعات المزايدات الصراعية ، حيث يدعي كل منها أنه الأقرب الى الدين ، وبالتالي الأحق بالسيطرة والنفوذ. وعلى هذه الأرضية يظهر الانقسام الديني المذهبي داخل المجتمع الواحد ، ويدب النزاع باسم الدين . ومن طبائع الأمور وجود أفراد وجماعات في المجتمع من أبناء الدين الواحد ، تختلف في الرؤى والاجتهادات مع الجماعات والأحزاب الدينية النافذة. وعندما يتم التعامل مع هؤلاء وتلك بأساليب الاقصاء والتشويه والتكفير ، تكتمل بذلك دائرة الشرخ المجتمعي ، وتزداد حدة الاحتقان.
وكان من المفترض أن الأحزاب والجماعات الاسلامية في عالمنا العربي ، وتحديدا جماعة الاخوان المسلمين قد تخلصت من هذا الارث من خلال المراجعة النقدية ، وتخففت من هذه الأساليب وأثقالها على الأقل في مرحلة ما أصطلح على تسميته بالربيع العربي ، وانسجاما مع روح العصر وتطوراته المتسارعة. لكن الممارسات على الأرض ، وهي أكبر شاهد ودليل ، تشي بما يدعو الى القلق وعدم الاطمئنان .اذ يبدو أن "الأخوان" غير مستعدين ، وربما غير راغبين بتمثل قواعد الديمقراطية وقيمها بما هي مواطنة وانفتاح ، ومشاركة لا مغالبة ، وتعددية لا هيمنة ، ودولة ديمقراطية مدنية ، لا دولة الشريعة . وأظن أن ممارسات "الأخوان" في "الشقيقة الكبرى" مصر ، وهم التنظيم الأكبر والقائد والموجه لباقي الفروع في الدول الشقيقة،تعزز هذا الاستنتاج بالدليل والبرهان."الجماعة" أخذتهم نشوة الفوز بأغلبية مقاعد البرلمان ، واستخفهم طرب المد الجماهيري الكاسح كما يحلو لهم القول ، ولم يلبثوا أن لحسوا وعودهم بعدم الترشح لانتخابات رئاسة الجمهورية ، وقدموا اثنين من قادتهم لهذا المنصب، يضاف الى ذلك سيطرتهم على مجلس الشورى ، ولجنة صياغة الدستور المصري الجديد. وهكذا فقد "الأخوان" القدرة على توزين الأمور ، وطرحوا أنفسهم بمظهر النزوع الى المغالبة والتفرد والاقصاء. مصر تعيش الآن مرحلة انتقالية ، وهذه المرحلة كما دلت تجارب كثيرة في الماضي والحاضر هي الأخطر في تاريخ الدول . وهي مرحلة يتطلع فيها الشعب المصري ، والشعوب العربية الى شيء جديد مختلف يتجاوز واقع الاستبداد والفساد والتبعية . وهذا الجديد غير ممكن التحقق على أرض الواقع من دون برنامج وطني ديمقراطي جامع، يضمن وحدة الطاقات المجتمعية وتماسكها ، والتصدي للأعباء الثقيلة الملقاة على سلطات الربيع العربي . أما الأكثر مدعاة للقلق فهو الدعوة الى تطبيق الشريعة كهدف أول تسعى الجماعة اليه ، كما قال بذلك خيرت الشاطر مرشح "الأخوان" لمنصب رئيس الجمهورية. وهنا نجد أنفسنا أمام دعوة علنية الى ابقاء مجتمعاتنا أسيرة ماض انقضى ولن يعود ، عدا عن كونها تعبيرا عن رؤية مشوهة للدين ، تقف على الضد من أسس الدولة الحديثة ، دولة المواطنة والديمقراطية والتعددية. وبهذه الدعوة يصور "الأخوان" مجتمعاتنا وكأن الشريعة غائبة عنها ، وهم دون سواهم رسل الاسلام الجدد . وهذه كما أسلفت أقرب وصفة للفرقة والتنازع داخل المجتمع الواحد ، ومدخل للتكفير ، وتوزيع الناس بين دار الكفر ، ودار الايمان. أكبر خطأ يمكن أن يقع في شراكه "الأخوان" هو أن تدور برؤوسهم "شربة" الفوز ، ويظنون أن التاريخ العربي انتهى بهم. التاريخ الانساني لا يتوقف ، وهو في حركة دائمة ، وفوز "الأخوان" جاء في سياق مرحلة من الخطأ الظن أن سياقاتها وظروفها ستستمر بلا نهاية. هذا الفوز تحقق في اطار بحث الناس عن بديل أفضل للواقع الآسن، لكنه بالمقابل تم في مرحلة ملأى بالتحديات التي ليس بمقدور حزب بمفرده مواجهة استحقاقاتها . واذا لم يزن "الأخوان" الأمور بموازين الذهب الخالص فانهم سائرون بلا محالة الى وضع أنفسهم ونهجهم في مواجهة المجتمع بأكمله ، الذي قلت قبل قليل أنه لن يوقف مسيرة البحث عن بدائل تلبي تطلعاته وطموحاته انسجاما مع روح العصر.النزوع الى الهيمنة والتفرد والاقصاء هي أسهل الطرق للتأزيم ، ومبعث خوف وقلق من الوقوع تحت وطأة استبداد يرتدي لبوس الدين ، وهو ما بدأت نذره تتصاعد في المجتمع المصري ، وسينسحب الأمر ذاته على المجتمعات العربية كلها . وهنا أرى من المناسب الاشارة الى الوثيقة الشهيرة التي أصدرها الأزهر بعد ادراكه أخطار تسييس الدين . الوثيقة ترى أن نظام الحكم في مصر يجب أن يكون لكل المصريين ، على أساس المواطنة ، وحرية العقيدة والعبادة ، وحرية التعبير ، والابداع العلمي ، والابداع الفني. الترجمة العملية لهذه الوثيقة تصب في مبدأ فصل الدين عن السياسة ، الركن الأهم في العلمانية ، التي أثبتت تجارب الشعوب المتقدمة أنها الطريق الأفضل للنهوض والتقدم . فهل يتفكر "الأخوان" ويتعظون ويعون ، أم سيواصلون حث الخطى على طريق مواجهة المجتمع ، ومعاندة روح العصر ، وهي طريق مآلها الخسران لا محالة.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات