رسالة شهيد إلى وطنه


وطني العزيز :
تحية مدادها الزعفران وقبلة على جبينك المتعب وبعد :
وطني وأنأ أرقد قرير العين بين جنبات حبات تربتك ، أبعث لك رسالتي هذه بقلم شريف حبره من دمي أستعيره خجلا من ترابك المضيء نورا به ، و أستذكر لمحات مضيئة من حياتي لعلها توهج و تنير فيك قناديل الوفاء ومحاسن العرفان ورد الجميل .
و طني العزيز :
منذ إطلالتي على الدنيا وأنأ أتربى على حبك وأستشف دفئك مقرونا بحليب أمي الطاهر، ويوما بعد يوم أتوق إلى رعايتك وخدمتك و إعلاء شأنك ، كيف لا وما فتئت أمي تسامرني وتناجيني قائلة : أنها تمني النفس في أن تكتحل عيناها برؤية فلذة كبدها ببزته العسكرية ، لتفاخر بي نساء العشيرة ، ولتدرك طهارة وطهر حليبها و لتعلي هامتي و هامتها طربا وبهجة ، و نشميات العشيرة يرددن في ليال السهر وأيام الطهور و الأفراح التغني بهيبة و عزة الجنود و العسكر والضباط ، بأوسمتهم و شماغهم الأحمر المهدب ، وأوشحتهم الحمر و( بوريهاتهم ) السود المرصعة بالتاج وألبستهم التي تعطرت بأنفاسهم الفواحة بكل رجولة وإقدام .أما أبي فلا تجده إلا مباهيا بي جموع رجال العشيرة ، عندما يتحقق حلمه بأن يزهو التاج مقرونا بعقال الشرف على راسي ، لأكن فارسا من فرسان الوطن وأسند ظهره و أعضده في عجاف الأزمان و الأحوال ، وأحضر له القهوة الأصيلة ودخان ( الهيشي ) ليعدل كيفه و ليشاركه كل عود من العشيرة بذلك .
تحققت أحلامي و جاء بي القدر والنصيب لأتشرف بأن أكون أحد جندك في نهاية عقد الخمسينات من القرن السابق ، و أن أعتلي يوما بعد يوم سلم المعرفة و المهارة و اللياقة والإقدام و النظام و الانتظام ، حتى أصبحت يا وطني مع الهواء الذي أتنفس ، ومع الطعام الذي أتناول ، ومع الماء الزلال الذي أشرب ، وجل زملائي يشاطروني المحبة والإخلاص .
عزيزي :
إن لصيحات إخوة السلاح وقع لا تزال ترانيمه على أسماعي توقضني وهي تردد : الله الوطن الملك ، الله الوطن الملك إيمان شرف دعوة الحق لدينا نفحت هبت علينا أرسل الله إلينا سيد الكون محمد
فهل ما زالت هذه الترانيم تفوح من الأفواه قولا وفعلا ؟!
ما أجملها من ساعات عشتها بك وفيك يا وطني!
فيا وطني : هل تذكر قطرات العرق التي رويت بها ميادينك ؟! وهل تذكر صدى صوتي يجلجل بين جنبات ميادينك الطاهرة ؟!
وهل تذكر دبابتي التي زمجرت بين هضابك وأنأ أوجه طاقمها إلى ساحات الوغى وميادين البطولة ؟!
وهل تذكر الساعات التي قضيتها في تشذيب وتهذيب حركات عسكرية لجنود أغرار ؟!
بربك هل تذكر كم دافعت عن مظلمة ، وحصنت مشردة ، وألهمت مفرزة ، وأنمتك بمهنئة ؟!
وهل تذكر ليالي البرد القارصة التي كابدتها لحراسة حدودك ؛ ليدفئ حضنك من برد أضلاعي وألم أقدامي ؟!
وطني العزيز :
عندما ادلهم الخطب و ضاقت بك الدنيا بما رحبت وتربص بك الأعداء من كل حدب وصوب وأدبر المرتجفون وضاقت بك السبل ، كان شعارنا المنية و لا الدنية ، وأيقنا أن شرف الجندية ليوم كهذا و ليس ليوم اللهو و اللعب و العنب في ردهات الفنادق وأحضان ( الشليهات ) وصخب الملاهي والمراقص ، و إن الأرض لا يطهر دنسها إلا بدماء طاهرة ، وإن شماتة الأعداء و الجبناء لا تبرح إلا برصاص يحدو كالمطر ، و ارتسمت ملامح و كلمات الملك القائد بين ظهرانينا وهي تصدح بــ : أيها الجنود والضباط الأبطال أحييكم أينما كنتم ، عندها بدأت زغاريدنا تناجي المكان بأجش وأعذب الألحان ، وتتناخى بكلمات في آذان النشاما لها وقع يجلجل الأرض ويقشعر الأبدان ويختزل الشجاعة والشرف بها : كأنا راع البويضا ، و اخو خضرا ، و اخو صالحه ، واخو عليا ، وراع الجدعا ، والجربا ، والبلها ، والفاطر ، والحيزا ، والهدلى ، وغيرها الكثير من بواعث الحمية والنخوة والتي أستميح أهلي عدم تذكرها جميعا لبعد غيبتي عنكم ، وكانت هذه الرموز لا تحيد بنا إلا إلى الموت ونحن نحدو :
ياحسين حنا عزوتك حرب العدو ما نهابها
لعيون بسمه والبنات دم النشاما خضابها
ويحضرنا قول الشاعر :
سأحمل روحي على راحتي والقي بها في مهاوي الردى
لعمرك إني أرى مصرعي ولكـــــن أغذ إليه الخطى
فأما حياة تسر الصديق وأما ممات يغيض العدى
أخوفا وعندي تهون الحياة وذلا وانــــي لرب الإبا
وأحمي حياضي بحد الحسام فيعلم قومـــــي إني الفتى

وما هي إلا سويعات حتى جاء موعود الله ، وأخذ صاحب الوداعة وداعته ، بعد أن صدقنا الوعد وحفظنا الشرف وأعلينا الراية ومجدنا العشيرة والأهل والديار ، وأغمضنا عيوننا بعد أن أدركنا أن الدنية دنت وأن العلية علت وأنك يا وطني أصبحت أمنا زاهيا كريما لا تعكر صفوك شاردة ولا واردة ، وألجمنا طمع الأعداء.
اخبرني أثلج صدري يا وطني أمانتي فيك...، أهلي ، عشيرتي ؟! هل حفظت المعروف لديهم ؟
وهل أعليت شانهم كما أعليت شأنك ؟ هل أرغدتهم وأكرمتهم عيشا ليكبروا فيك وفائك ؟
وهل جعلتهم قرة عينك التي أكحلتها بكحل لا يباع في أسواق اللهو والمجون ؟
أرضي ، معسكراتها ، خيراتها ،غاباتها ، مقدساتها !
هل شيدتها وحفظتها وتتنعم بها أجيالك ؟ وهل تصدح كنائسك وتكبر مآذنك بصوت غير أجش ببلادنا المحتلة ؟!
ماذا بشأن رفاتي ( قبري ) هل جملته وحفظته وجعلتني أرى من حولي فسحة واسعة وأقمت لي تذكارا يطاول المكان ويتعدى الزمان وأصبح من منارات الوطن الشامخة ؟
وطني أصحيح ما تناهى لمسامعي أنك أصبحت كثير البكاء والخزن وبعض أبنائك أسكرهم البطر وغابت أعينهم عن رؤية العز فيك وديدنهم عقوقك وجحود خيرك والإجهاز على نهبك ، وغيرهم قتلتهم جيوب الفقر وقلة الحظ وانتظار الطرود ، وهم أباه؟ !.
وطني :
اسمي ... اسمي أيكتب على صدور الرجال ؟! وفي شامخات المعاني وساحات البطولة ؟! وهل دباباتك ومعالمك الحضارية والعسكرية وطرقاتك وصروحك تتوشح باسمي؟ !
هل تتذكرني دوما بربك يا عزيزي كن صادقا في قولك كما عهدتك ، أم هل بدلتك السنون !
وطني : أبارك لإخواني الجنود أعيادهما بالكرامة وغيرها والتي زهت بأفعالي لا بأقوالي .
أين معايدتهم وسلامهم على قبري إني أعتب عليهم بقدر حبي لهم ؟ وأين... أين ...
وطني : فيكم شاعر يطربني سماعه وهو يقول :
فباطن الأرض للأحرار أكرم من كل الذي فوق ظهر الأرض من عفن
دفعت حتى فواتير اللصـــــوص ومـــــــــا أدفعها في الـــــسر والعلــن
هذا زمان " نــعم " في أبجدية من لم يبق من خيلهم فيهم سوى الرسن
قل لوصــــفي بأنا قادمون مـــعا كـــــــــي لا نصـــلي بــعد الله للوثن
وصفي وأعرف أن الروح تسمعني ارجع ولو شوكة في الخصر توجعني
وطني لا أريد أن أطيل عليك ؛ لأني أقدر مشاغلك وهمومك ، ولكن أوصيك أن لا تحيد قداسة أهدافي وأهدافك السامية عن أحداق عيونك ، امسك بنواجذك ( التي أضعفها عقوق بعض من كان من صلبك أو ذويك) عليها ولا تتناسى تضحياتي فيك .
ابلغ سلامي لزوجتي الأصيلة وأهلي الكرام ورفاقي الأشاوس الذين منهم حارسا للثغور ، أو لاهجا بدعاء الخير ، أو طالبا للرزق في عجاف أيامه ، أو منتظرا لموعود الله ، ولأبي الحسين ولأحرار الأمة و لكل من يترحم علي سلام .
ختاما عنواني واضح ، أمل التواصل والمراسلة لمن يملك الذاكرة والوقت والوفاء وعشت سالما على الدوام يا وطني وإلى رسالة قادمة .
المرسل : شهيد من شهداء الجيش العربي

البادية الشمالية



تعليقات القراء

انا حيران
1.اقتباس ( وأنأ أرقد قرير العين بين جنبات حبات تربتك )

انا حيران :

يقول رب العزه في محكم كتابه العظيم:

"(وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ )"

2.وهل كتبها قبل استشهاده ام بعده؟

وكيف ارسلها في الحالتين؟

انا بانتظار الاجابه

مهما طالت

جراسا الغاليه على قلبي

المحرر المبجل

حريه الرأي الاخر

كل المحبه

و فائق التقدير

20-03-2012 02:21 PM

أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات