د.عبدالله خوري في ذكرى رحيلة الثالثة


د. عبد الله خوري..في ذكرى رحيله الثالثة! "ثمار الأرض تجنى كل موسم..لكن ثمار الصداقة تجنى كل لحظة".
ما أصعب أن تكتب عن إنسان يعز عليك. والأصعب أن تكتب عن إنسان ترك إرثا من العطاء والتضحية لا يعوض ولا يقدر بثمن.
في مثل هذه الأيام وبالتحديد في الثامن من آذار قبل ثلاثة أعوام فقدت الحركة الطبية الفلسطينية عامة والمقدسية خاصة علما من أعلامها البارزين..انه الدكتورعبد الله أنطون خوري"أبو نديم", الذي أمضى أكثر من نصف قرن من عمره في خدمة أبناء شعبه بإخلاص قلما نشاهد مثله.
لقد كان المرحوم زهيدا في حياته إلى أبعد الحدود ولم يتخذ من مهنة الطب وسيلة للثراء, فقد كان أبا للفقراء والمحتاجين..تعلم وعلم وتتلمذ على يديه العديد من الجراحين الذين برزوا وأبدعوا في مجالهم وأكملوا مشواره يدا بيد معه من أجل تطوير الخدمات الصحية الفلسطينية وخاصة المقدسية.لم تفارق الابتسامة وجهه طيلة حياته وحتى عند إلقاء النظرة الأخيرة عليه أبت هذه الابتسامة أن تفارق محياه. لقد كان الفقيد رحمه الله إنسانا هادئا بسيطا متواضعا خدوما متسامحا, لقد تميز بهذه الصفات حقا وبكل ما تحمله من عمق المعاني، لا بل عاش هذه الصفات وجسسدها في مفردات حياته اليومية المليئة بالخدمة والعلاقات الطيبة مع الجميع. لقد كان نفسهُ في التعاون وخدمة الآخرين أمرا منقطع النظير، فلم يطرق بابه احد ويطلب منه استفسارا أو مساعدة أو استشارة إلا وقدم له ما يريد, وبهذا يكون قد أدى الأمانة بأكمل صورها ورحل عنا كالأشجار واقفا. وما يستحق فقيدنا أن نذكر عنه انه كان يخدم الجميع دون استثناء، فلم يكن في عقله ونفسيته حدوداً طائفية أو دينية أو مذهبية، إنما كانت نظرته لمعونة الآخرين ومساعدتهم نظرة إنسانية مفتوحة للجميع، وكأن لسان حاله يقول ان الناس تبحث عن عمل الخير، وأنا تأتيني فرصة عمل، وتطرق بابي، فلماذا لا افعل ذلك، ولماذا لا أشرك معي الآخرين في عمل الخير، حيث كان رحمه الله يكلف محبيه الكثر ومعارفه لمساعدة وخدمة الآخرين.
رحل عنا والألم يغص قلوبنا والدموع تملأ مآقينا..لطالما عالج المرضى وبدون مقابل..رجل لم تعرف كلمة"لا" إلى فمه طريقا..هب وعلى الدوام لمساعدة المحتاجين. كان مديرا طبيا لمستشفى مار يوسف في الشيخ جراح في القدس على مدار قرابة العشرين عاما وبدون"مقابل". كان متواضعا إلى أبعد الحدود بل انه أوجد مفهوما جديدا للتواضع..لقد عمل دائما من أجل توحيد المستشفيات العربية في القدس لتكمل بعضها بعضا وذلك من أجل تقديم أعلى مستويات الخدمات الصحية لأهل القدس وباقي أرجاء فلسطين المحتلة. إذا تحدثنا عن الانتماء فهو الانتماء بعينه..انتماء إلى المهنة وانتماء إلى القدس والوطن..كان يطمح دائما في إيجاد مرجعية طبية تضاهي المستشفيات"الإسرائيلية".
لقد كان الراحل أبرز الشخصيات الفلسطينية التي وقعت على الوثيقة المقدسية الشهيرة في تشرين ثاني من العام 2007 والتي طالبت أصحاب القرار الفلسطيني والعربي والإسلامي وأصحاب الفكر والرأي والقيادات المجتمعية مسئولية أمانة حماية القدس ومقدساتها أمام الأمة والتاريخ.
بعد رحيله تم تخليده بافتتاح قسم الجراحة الجديد في مستشفى مار يوسف ليحمل اسمه, وحسب رأيي الشخصي, لقد جاء حفل تخليده متأخرا, فشخصية كشخصية أبي نديم كان من الواجب تقديرها وهي على قيد الحياة وهي في قمة العطاء, وتخليد ذكراه أعلى وأكبر بكثير مما تم فعله, ورغم ذلك نقول شكرا لإدارة المستشفى وان كانت صحوتها متأخرة.
دكتورنا الغالي:تمر علينا ذكرى رحيلك الثالثة في وقت أسقطت فيه رياح التغيير الشبابية في وطننا العربي بعض القادة المستبدين القامعين, ومن تبقى فهو حتما سيواجه نفس المصير, فلم تعد الشعوب قادرة على تحمل هؤلاء القادة المتسلطين القمعيين. وانني على ثقة تامة بأنك كنت أول من سيبتهج قلبه لما يجري لو كتب لك أن تكون بيننا الان, ولكنني أعلم بأنك تسمعني جيدا لأنك لا تزال بيننا. فجسدك وان غادرنا الا أن روحك لا تزال ترفرف بيننا وفوقنا لتحمينا من المتسلطين الظالمين, كيف لا وقد كنت أول من قاوم الظلم وأصحابه, فنم قرير العين يا أبا نديم.
وأما بالنسبة للمستوى الذي وصلت اليه مهنة الطب فانه يزداد تدهورا يوما بعد يوم, فالطب أصبح مهنة تجارية يتنافس عليها الأطباء ومن يدفع ثمن ذلك هم المواطنون المغلوب على أمرهم..رحم الله أيام زمان عندما كنت أنت ومن سبقوك ومن أتوا من بعدك يعالجون المرضى ويرفضوا تلقي الأجر بل يقومون بشراء الدواء لهم. نعم يا فقيدنا الغالي, اننا وللأسف الشديد نلاحظ كذلك تنافسا كبيرا واسع النطاق بين الأطباء أنفسهم وخاصة الجراحين منهم, فهم يتسابقون على المرضى وكأنهم في حقل لسباق الخيول ومن هنا بدأنا نلاحظ-وأنا أشهد على ما سأقول- بأن هنالك نسبة لا يستهان بها من التدخلات الجراحية التي لا لزوم لها فأصبح هذا الجراح يخاف ان لم يجرح من توجه اليه بأن يقوم زميل له باجراء الجراحة..لقد فقدت مهنة الطب شرفها فهل من سيعيد لها هذا الشرف؟..انه سؤال بسيط أطرحه على الزملاء الأطباء وخاصة الجراحين وأطالب في نفس الوقت المرضى المغلوب على أمرهم بواجب اتخاذ الحذر وأخذ رأي طبيب اخر أو حتى ثالث قبل الوقوع تحت مشرط الجراح. باسمك يا فقيدنا الغالي وباسم من هم من الرعيل الأول الذي انتميتم اليه نطالب بتشكيل مرجعية طبية مقدسية تشرف وتنسق بين المستشفيات العربية في القدس مرجعية يكون لها دور الحسيب والرقيب والا سيأتي اليوم الذي لا ينفع فيه الندم ولا أراه بعيدا في ظل الظروف التي أسلفت الحديث عنها. ومن هنا أذكر الزملاء الأطباء بمقولة فلسفية مشهورة:"إن علم الطبيب وكفاءته لا تغنيانه عن أخلاقه فالأخلاقيات المنهارة تقتل أكثر مما يقتل غياب الكفاءة". ثلاثة أعوام مرت على رحيلك أيها الأب والصديق والزميل والأخ الكبير, ولكنك لم ترحل فأنت في عقولنا وقلوبنا وضمائرنا تعيش معنا وما مات من زرع العقيدة وارتحل. أبا نديم:أقولها وبصراحة, لمار يوسف طعم اخر غير الذي اعتدناه عليه أثناء وجودك فيه..نم قرير العين وما بقي لي أن أقول:انهض يا أبا نديم, انهض أيها المسيح من بين الأموات وهب الحياة وشرف المهنة الطبية لمن افتقدوها وأطلق صرختك المدوية في اذانهم الصمة(واحسرتاه يا طب) لعلهم يستيقظون من سباتهم العميق..وأطلب المعذرة ان كنت قد أثقلت عليك في حديثي عما تعاني منه مهنة الطب, أقدس وأطهر مهنة عرفها التاريخ ولكنني على ثقة بأنك تسمعني وصدرك واسع لذلك فهكذا عشت وهكذا رحلت. ونقول لن ننساك ما حيينا..لن ينساك من عالجتهم ومن ساعدتهم ومن علمتهم, ولن تنساك عصافير القدس وزقاقها وأحجارها وكنائسها ومساجدها. ولن تنساك المرأة الفلسطينية التي ضحيت من أجلها وكنت نصيرها, ففي يوم رحيلك يحتفل العالم أجمع بيوم المرأة العالمي..لن أبكيك فأنت أكبر من أن يبكى عليك..نحتفل بيوم المرأة و"نحتفل" برحيلك فالعظماء لا يموتون أبدا. فقيدنا الغالي، كم سنفتقدك حيا في كل مكان، وكم ستبقى حيا بيننا أبدا تغني ونغني معك كما غنى شاعرنا الفلسطيني الراحل محمود درويش.."على هذه الأرض, سيدة الأرض, ما يستحق الحياة. في ذكرى رحيلك الثالثة يا دكتورنا الغالي نردد ما جاء في الكتاب المقدس"الرب أعطى والرب أخذ، فليكن إسم الرب مباركا", ونقول لن ننساك ما حيينا وسنردد أبد الدهر..وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر. والى الأم الغالية"أم نديم"وأولادها وبناتها أقول:نم قرير العين يا"أبا نديم" فلقد زرعت زرعا طيبا، وأكملت سعيك وجاهدت الجهاد الحسن كما يقول بولس الرسول.
نطلب من الرب أن يكافئك بإكليل المجد الذي تستحقه على متاجرتك بالوزنات التي اؤتمنت عليها. د. صلاح عودة الله رئيس قسم التخدير والعناية المركزة- مستشفى مار يوسف








تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات