فراق .. إنفاق .. تحمُّل مشاق


عندما كانت ولادة المصطفى صلى الله عليه وسلم فاصلاً بين حدود الحقّ والباطل, أقرَّت البشريَّةُ بالغاية التي جاء بها محمداً صلى الله عليه وسلم من عند ربه , وهي إخراج الناس من عبادة الأشياء إلى عبادة رب الأشياء ـ جل جلاله ـ , ولذلك ولأننا ننادي دوماً بالوقوف على فقه الأحداث ولا نكتفي بسردها قصصاً ووقائع فقط , فسنتوقف اليوم مع العبر المستقاة من ولادة بل وقبل الولادة خلق محمد عليه الصلاة والسلام وخلق البشرية جمعاء.

سبب خلق البشر ـ والانبياء منهم ـ هو أن الله أراد أن يُذكر ويُشكر فخلق الخلق , وبعث النّبيّين ليوضحوا هذه الحقيقة البَدَهيَّة في العقيدة , وكان منهم المصطفى المختار محمداً عليه الصلاة والسلام, فلا نريد أن نذكر الوقائع والظروف التي رافقت ميلاد المصطفى عليه أفضل الصلوات من ربه ,ولا نريد أن نتطرق إلى ما يتطرق إليه الوعّاظ والكُتّاب بل والدراما لتصوير الوقائع ـ سرداً على المسامع ,لأن الكل يعرفها ولا يغفل عنها ولكن نريد أن نقف على سبب الخلق والولادة للنبي ومن ثم هو نفس سبب خلق البشرية جمعاء.

كيف نذكر الله ونشكره ؟ وكيف نربط بين الذكرى والعبرة منها وهي الذّكر والشكر؟

الذِّكر والشُّكر يكون بالإمتثال الكامل لأوامر الله والرسول والإنتهاء المطلق عن نواهي الله والرسول , فها هو خير الخلق الهادي عليه الصلاة والسلام يعرف حقيقة أن الدين هو سبب الوجود ,هذا الدين الذي يندرج تحت عنوان كبير وهو (لا اله الا الله ) ولذلك هذا الدين هو أهم من البشر حتى من الأنبياء أنفسهم , والدليل أنَّهم أوذوا في سبيل الرسالة التي تحمل عنوان (لا اله الا الله) , فلو كان البشر أهم من الدين لما صبر الأنبياء على الأذى في سبيل الرسالة السامية التي تُحقق الشكر والذكر المطلوبين .

لِنعُد لمختصر حياة النبي صلى الله عليه وسلم التي كانت تُوجِّه في أحداثها التاريخ ليوثِّق أن الذِّكر والشكر هما الغاية من خلال ثلاث حقائق كبيرة كانت عنواناً لحياة صاحب الذكرى محمد صلى الله عليه وسلم ,فالحقائق الثلاث الماثلة في حياته وهي (الفراق) و(الانفاق) و(تحمل المشاق) هي الميزان الذي نستطيع ان نزن درجة ايماننا من خلاله ونعرض أنفسنا عليه لنعرف هل نحن نسير في حياتنا كما سار صاحب ذكرى الميلاد العطرة في حياته؟!

ـ الفراق ــ هو عنوانٌ اتَّصل بمراحل حياة النبي صلى الله عليه وسلم ,فها هو الأب يفارق الدنيا ليكون الابن يتيما ـ صلى الله عليه وسلم ـ وها هي الام ترحل بعد ميلاده وها هي المرضعة الفقيرة تأخذه الى قبيلة بني سعد خارج أرضه وموطنه ليفارق الأرض هنا والعشيرة,
ثم فراقه الجهل وامتطاءه الجبال العالية التي تحمل في داخلها غارا فارق الناس ليتفكر بفطرته السليمة بخالق عظيم لهذا الكون ,حتى نزلت عليه الرسالة ,وهاهو بعد الرسالة يغرس فكر الفراق لأجل الدين في حياة ونفوس من فهموا عليه ,خير الخلق بعد الانبياء رضي الله عنهم,ليفارقوا الى الحبشة وهام أتباعه يُطردون الى الشِّعب وكان فراقهم بوثيقة المقاطعة من قبل قريش فلا يُباعوا ولا يُزوَّجوا ولا يحصلوا على شيء لأنهم قرروا اتباع منهج محمد ,وها هو يفارق الى المدينة بدينه فاراً, ليقيم دولة يذكر الله عليها ويشكر كيف لا فهذه غاية خلق محمد وولادته الى الوجود صلى الله عليه وسلم, من منا يفارق فراشه للمسجد ,او لصلة رحمه, او..او.. او.. ؟!

ـ الانفاق ــ فها هو الحبيب عليه الصلاة والسلام ينفق مما يحب وبرضا وعن طيب خاطر ,وها هو السائل يمر بباب بيته وقت الغروب طالبا الطعام فيعطيه طعام افطاره بعد صوم يوم طويل ,ثم يمر آخر في اليوم التالي وثالث في اليوم الذي بعده ولم يبخل سيد الانفاق في إعطائه مما لا يملك غيره ليقتات به ويقول :"نفطر اليوم على ماء", وها هو بيت الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام يمر به الهلال والهلال الذي يليه ثم الهلال الثالث ولا يوقد في بيت النبي صلى الله عليه وسلم نارا ,!!الله اكبر ثلاثة أشهر لم يُطبخ طعامٌ في بيت سيِّد البشريَّة ! إنَّه سيّد الإنفاق وليس الفقر السبب لأنه لو طلب لأخذ ما أراد, ولكنّه أراد أن يُعلّمنا أن الدّنيا قوت اليوم ويكفي ,أين نحن من ذلك ؟ ومن يرضى ان لا يُطبَخ في بيته منّا اليوم نحن من ندعي اننا نحتفل بمحمد وذكراه؟ّ

ـ تحمل المشاق ــ فها هو يُضرب وتُكسر رباعيَّته ويشقُّ وجهه الشريف وتدمى قدماه ,ناهيك عن الأذى بالاتهام له , كرميه بالجنون والسحر أحيانا وطلب الدنيا والمناصب والمال أحياناً اخرى ,ثم وصول الامر باتهام أهل بيته الأطهار بعرضهم ,وها هو يتعرض لمحاولات القتل من يهود ,ثم غدر البعض به ,ثم محاولة تسميمه ,ثم..وثم..وثم..الكثير مما ذكره التاريخ مُحبلاً بأحداث الأذى للرسول الكريم عليه السلام .ولكنه كان من يتحمل المشاق والصعاب الجسام لتتحقق الغاية من خلقه ووجوده وولادته وهو (أن الله يجب ان يُذكر ويُشكر) وهذا يعني العبادة الحقة لله.

فلنعرض أنفسنا على ملخص حياته صلى الله عليه وسلم في الفراق والانفاق وتحمل المشاق , فكم نحن قريبون من منهجه ولو بالتمني نكون قد احتفلنا بميلاده صلى الله عليه وسلم ,وكم نحن بعيدون عن منهجه فنكون قد ابتعدنا عن الطريقة التي يريدها صاحب الذكرى في منهج الحياة .ويكون الاحتفال بهذه الذكرى في هذه الحالة ضرباً من طقوسٍ وتراتيلَ تُكرِّرُ ذاتَها كلَّ ربيع أول من كل سنة هجرية لا تعطي للأمة عزَّةً ولا هُويَّة.


*امام مسجد عبين الكبير ـ عبين عبلين



تعليقات القراء

جخيدم
الشيخ:يوسف المومني

امام مسجد عبين الكبير

انا متأكد ان لديك الكثير من الواجبات

ولكن

اذا(وفقط اذا)كان لديك متسع من الوقت

ارجو ان تقرأ التعليق على:

مقال الكاتب الكريم :احمد عريقات

"سوريا .. سمك..وأهبل حارتنا "

لتعرف مدى معاناة بعض اطفال "امة محمد"(صلى الله عليه و سلم)

مقال جميل

مع عظيم احترامي و مودتي

جراسا و المحرر الكريم

شكرا
03-02-2012 10:52 PM
يوسف المومني
شكرا لكم في جراسا على الجهود التي تبذلونها لنقل الحقيقة ونقل ايضا فكر الكتاب هنا وسأقرأ التعليق الذي ذكرت وشكرا
03-02-2012 11:19 PM
جخيدم
الكريم و المبجل

الشيخ و الكاتب

يوسف المومني

السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

(لقد قرأت تعليقكم الكريم)

(عادة انا اكره لغة الجماعه)

ولكن

انتم من توظفون و تبينون للناس رسالة الاسلام السمحه

ومقاصد الدين الكريم

و اكتفي بذلك

فالفقه ليس من اختصاصي

ولكن

كلمات مقالك دخلت قلبي

وقديما قيل

مايخرج من القلب

يدخل قلوب الاخرين

مرة اخرى

كل الشكر و التقدير

على القراءه

و التواصل

فهذا

يدل

على

طيب اصلك و سمو خلقك

شكرا لجراسا و المحرر الكريم
رد من المحرر:
العفو
04-02-2012 06:07 AM
عنبوط
الكاتب الشيخ/يوسف المومني حفظه الله
كل عام وانتم بخير
بوركت
04-02-2012 07:27 AM
جخيدم
المبجل

يوسف المومني

من اقوال المصطفى(صلوات الله عليه)

"روحوا القلوب ساعة بعد ساعه"

في المره الفارطه(السابقه بلغة الاخوه التوانسه الا كارم)

رجوتك تنم تقرأ

هذه المره

اقرأ

التعليق :على مقال:

الكاتب الكريم:صايل الدقامسه

"ألعوده لفاتورة المياه ألربعيه قرار شعبي بامتياز"

مع عظيم مودتي
04-02-2012 07:49 AM
يوسف المومني
تكرم يا جخيدم
04-02-2012 11:06 AM

أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات