الغسيل والغسل


للغسيل وجهان؛ مفطور ومكتسب، فالأول هو ما نعهده من نظافة وطهارة وإزالة نجاسة. أمّا الآخر، فهو ذاك الفيروس الذي ينتشر في المجتمعات بمناشطها الفكرية والسياسية والأخلاقية والمالية؛ فظهر مثلا نوع من أنواع الغسيل هو غسيل الأدمغة، وفيه يتمّ التحكم والسيطرة على فكر فرد أو مجموعة دون رغبة منه أو منهم ولا إرادة، عن طريق أساليب غير إنسانية كالتعذيب والضغط النفسي على الضحية، ووضعه في أجواء خاصة يخرج بعدها مطيعا منصاعا لجلّاديه. ومثل هذا الغسيل موجود منذ القدم، وقد استخدم بفعالية في النظام الشيوعيّ. كما أنّه مستخدم في أقبية الجاسوسية في الدول الاستعمارية الكبرى خاصة. كما ويستخدم هذا الإجراء من قبل الأحزاب والتيارات العقائدية على وجه التحديد عندما يضعون المراهقين والشباب الصغار في مرمى سهامهم، بحيث يحولونهم من فكر إلى آخر ومن عقيدة إلى أخرى.
وغسيل من نوع آخر هو غسيل الضمائر؛ وهذا النوع ينشط عند إجراء انتخابات ما؛ بلدية أو نيابية، بحيث يتم شراء أصوات الناخبين بشتى السبل؛ عينية ومادية. وهنا، ينشط القائمون على هذا النوع من الغسيل بتوزيع الصوبات والمدافئ والحرامات وغيرها من عينات على بعض الفقراء مستغلين حاجة وعوز قسم منهم. وكذلك على المتاجرين بضمائرهم من أجل حفنة دراهم، فينساب من صناديق الاقتراع- أحيانا – متاجرون ومرتزقة وسماسرة نبتلي بهم سنين عجاف لا تبقي أخضر ولا يابس. وعندها، سيصدق علينا المثل القائل: يداك أوكتا وفوك نفخ.
أما النوع الثالث من الغسيل فهو غسيل الأبواق؛ وفيه يلجأ الفاسدون إلى شراء بعض الأبواق الإعلامية المقروءة والمسموعة والمكتوبة، لتقوم (بتلميعهم) ووضع مساحيق التجميل على أفعالهم. فإذا نطق ذاك الفاسد بجملة أقل من عادية، يصوغها إعلامه بصياغة أخرى كي تظهر وكأنها حكمة الدهر. وإذا كان ذاك المقامر يعاني من قصر النظر، وأنه لا يرى أبعد من قدميه، تتسابق أبواقه الإعلامية لإظهار بعد نظره وتطلعاته الفريدة من نوعها. كما ويقوم مثل هذا الإعلام المغسول باستراتيجيات التستّر والمراوغة والمواربة وتزييف الحقائق التي تتصل بهؤلاء ( الدّفِّيعة).
في حين يطلّ علينا، بين آونة وأخرى، نوع رابع من صنوف الغسيل، وهو غسيل الأموال. وأرباب هذا النوع هم أزلام العولمة، ومواكب الليبراليين، والمتاجرون بأقوات الشعوب ومصائرهم. إنّ الغسيل في بلادنا العربية مهنة السّفلة الذين تاجروا بالرقيق الأبيض،وقبضوا الكمسيونات والسمسرة والرشا، واختلسوا وسرقوا، واستثمروا في بيوت الدعارة كما استثمروا في التسليح. ولكي يضفوا مشروعية على ما جنوه من أموال عن طريق هذه المصادر اللامشروعة وغيرها، فإنهم يلجؤون إلى ما يدعى بغسيل الأموال، بحيث يتحول هذا المال إلى مال مشروع غير ملاحق قانونيا، وإلى مال لاتطاله يد العدالة؛ وإذا كنّا نستخدم المساحيق لغسيلنا، فإن لهؤلاء المارقين مساحيقهم الخاصة بهم، والمتعارف عليها فيما بينهم، حتى أنّ التّبرع للجمعيات الخيرية ودور الأيتام والعجزة هي من تلك الأساليب التي يلجؤون إليها في تبييض أموالهم ذات اللون الأسود. ولكن، سيظلّ الصّنم الذي عبدوه نجسا حتى لو غسلوه بماء زمزم.
وأما آخر أصناف الغسيل يا ابن أمّك، فهو غسيل الموتى. غسيلٌ لا غسيلَ لك بعدَه في الدّنيا. وما غِسْلين إلا ما يسيل من جلدك في جهنم، مما تعافه النفس. فهل تأمل بفسحة من زمن تتوب فيها إلى المولى القدير وترجع الأموال والحقوق إلى أصحابها أنت وغيرك ممن امتهنتم الغسل بأبشع صوره في حياتكم. وتطأطؤن رؤوسكم وجباهكم خانعين إلى حكم القضاء فيكم. وإن عجزت عدالة القانون أن تطالكم، فانتظروا عدالة لا يغيب عنها مثقال ذرة خردل.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات