فلسطين الوطن والوطن البديل


أذكر يوما في الإتحاد السوفيتي عندما كنت طالبا في عاصمة الفدائيين منسك، فكنت في زيارة رفيق صديق، طالب من سكان القدس حيث عاد توه من فلسطين (من البلاد)، وكما يُحبذ الأخوة الفلسطينيون لفظها والترنم شوقا وشذا بنغمها،... لا يمكن أن يمتلئ جوف إنسان بحب وطن كما هو الفلسطيني، ولسبب أنه جرب فقد الوطن، ولسبب أنه قارع الظلم والمغتصب على مدى التاريخ، ودقت سنابك خيل المعتدين أرضه في كل عصرٍ وفي كل زمن، ولسبب أن وطنهم تهواه الأمم، كل الأمم.
بعد أن أكلنا ملوخية فلسطينيه وبعد الشاي مع زعتر القدس سألته قائلا: آه يا أسعد حدثني عن البلاد!؟ فأجاب مكلوما بسؤال: ومن أين سأبدأ يا قطاونه؟ فقلت تلهفاً: ابدأ من (طقطق حتى السلام عليكم) حريصا أن لا يضيع عليَّ عِلم أو خبر أو وصف، ابدأ من حين دخلت نقطة حدود فلسطين، فقال: تأخرت في عمان وكدت أفقد حقي بالدخول إلى فلسطين وذلك بسبب الكرت الذي لم افهم فحواه لغاية الآن، أخضر، أصفر، ازرق؟! ويقول ألمهم أنني دخلت التفتيش الإسرائيلي مع عجوز قادمة من ديار الحجاز، وفي ذلك الزمان كان الصهاينة يمنعون إدخال البضاعة القادمة من العالم العربي حرصا على المقاطعة، حفاظا على اقتصاد إسرائيل وأمنها، وليس كما الصفقات والبزنس الإسرائيلي على ودنه في عواصم البين العربية في زمن العهر والاستسلام.
سَأَلتْ المجندةُ العجوزَ بلكنة عبرية: (شو خبيبي ... معك شي؟)، فأجابت العجوز:(لا ما معيش) فأخذت تفتش العجوز ووجدت معها في طرف منديلها أو (عِبها) بعض حبات من الهيل والحلوى والعلكة مربوطة في صُرةٍ هدية لحفيدها الصغير، فغضبت المجندة غضبا شديدا وبدأت تأمر العجوز بخلع ملابسها قطعةً قطعة حتى بدت ألعجوز عارية وهي تتوسلها وتستحلفها بكل أنواع الآلهة والرسل وبالذات بأنبياء بني إسرائيل، فما كان من ألمجندة إلا أن اشترطت عليها أن تبدأ بالرقص كي تُخلي سبيلها، راحت العجوز ترقص مُجبرة وتهز جسمها وخصرها عاريةً والمجندة تهز رأسها طربا ونصراً وتدق بيديها نغماً راقصاً على الطاولة، ويتابع أسعد قائلاً: الغريب، أن العجوز صارت تقفز كما الصبية ودموعها تهطل بغزارة، فما كان مني إلا أن مسحت عيني ونظرت إليه وإذا به يتقطع ألما وحزنا ودموعه تذرف، ففاجأته: أن هيا إلى السوق ولم اتركه يُكمل.
ليتني لم أُشفق عليه وتركته يُكمل، لكان في حوزتي وبين يديكم الآن قصة كرواية غسان كنفاني (رجال في الشمس) وفيها ثلاثة فلسطينيون تركوا أحلامهم هناك في فلسطين، مجبرين على النزوح إلى الأردن، إلى حياة الشتات والمخيمات الجديدة، حيث يتحطم فيها الأمل وقلب الإنسان، فيتولى أبو الخيزران تهريبهم من الأردن إلى الكويت ليعملوا هناك ويحصلوا على رغيف خبزهم الذي عز عليهم في الأردن ومنعتهم منه إسرائيل، يبحثون عن مُستقبل وربما بعض أمل يعوضهم عن الوطن، فينقلهم بخزان ماءٍ فارغ على ظهر سيارةٍ يعمل عليها فاختنقوا في الصحراء بداخل ذلك الخزان عندما نساهم بداخله وأعاقه موظف الجمارك الكويتي ألشهواني، عند الحدود العراقية الكويتية، يستجديه وصالاً مع عاهرةٍ في البصرة، فمنعه هذا وأنساه أن يُخرج الفتية هنيهة كل فترة والثانية، فمات ثلاثتهم ورابعهم حلمهم وطنهم، حقا وليس رجما بالغيب لم يكن معهم، ففكر ألسائق أبو الخيزران في أن يدفنهم وكان فزعاً مُرهقاً، فأفرغ جيوبهم من المال، وألقاهم على مكبٍ للقمامة، وعندما أراد أن يصعد لسيارته، خنقه سؤالٌ كاد أن يُفجر رأسه وينتزع قلبه من بين ضلوعه وصار يصيح بأعلى صوته: لماذا لم تدقّوا جدران الخزان؟؟ ... لماذا لم تدقّوا جدران الخزان؟؟ فلا يجيبه إلا صمت صحراء الكويت الحارقة المُطبق وصياحه... لما لم تدقوا جدران الخزان؟!.
ما سلف أورده لما يثور من كثير لغطٍ حول موضوع ألوطن البديل، وما يجيء من زوابع حول التوطين، وما يُحاك ضد فتية الحراك وضد الأردن وفلسطين، أقول ما لم يُقال للأخوة الفلسطينيين أينما كانوا وحيثما حلوا وأقاموا: أن لا وطن لكم إلا في فلسطين وكما يقول ألمثل ألروسي (كيفما ارتحت في الضيافة ففي بيتك أفضل).
لا أبغي إلا تحريض عاطفة الناس نحو فلسطين ولا أتمنى غير سهرة أو شقةٍ على شاطئ حيفا فلقد تقت شوقا لشواطئ المتوسط في فلسطين ... لا أبغي إلا أن أقول أننا وإياكم نحن الشرق أردنيين، ظُلمنا كما لم يُظلم أحد، حينما صرنا مجرد أرقام في الصناديق، لا فرق بين صناديقكم وصناديقنا‘ لا فرق بين صناديقٍ وصناديق، صندوق اقتراع أو صندوق نقود بنكي أو رصيد، أنتم أضعتم وطنا حينما أخرجوكم منه، ونحن أضاعنا ألوطن في الوطن وخرجنا منه ونحن داخله، فصرنا معا وإياكم كما قطتين هزيلتين متسختين تلهيهما مشاكساتٍ على حاوية زبالة أمام قصرٍ مُهيب...الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا ألله.
في شتاتكم وفي أوطاننا حيث صارت حياتنا في وطننا وكما خزان في صحراءٍ حارقة مجاميع مخلوقات تكاد ترقى إلى مستوى البشر... منقوصي حقوق، وأصبحنا وإياكم رجالاً في الشمس،........ ويا ديرتي حملوا يا ديرتي شالوا----ويا ديرتي واشعلوا في القلب نيران.
hekmatqat@yahoo.com



تعليقات القراء

ناجي الزعبي
ايها الصديق تذكرني بكتاب فرانز فانون المعذبون في الارض
هذة هي فضائل .. راس المال وادواتة, وببساة علينا ان نناضل لانجازتحررنا الوطني حتى نتحرر اجتماعيا
تحية لك
28-01-2012 08:30 PM
فنيخر
من مدونات احد الكتاب الشراكسه

مؤلف كتاب

"البذره الاخيره"

من يفقد وطنه

يفقد كل شيء
29-01-2012 06:36 PM

أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات