اسرائيل الخاسر الأكبر


يدور جدل ساخن هذه الايام في اوساط سياسية واعلامية عربية، وفلسطينية على وجه الخصوص، حول كيفية تقييم نتائج حرب الثلاثة اسابيع التي شنتها اسرائيل على قطاع غزة، من منظار الربح والخسارة، فأنصار حركات المقاومة يؤكدون انهم الطرف المنتصر، واعداء هذه الحركات، وفي معسكر محور الاعتدال العربي، ومن ضمنه رموز السلطة في رام الله، يرون عكس ذلك تماما، ويسخرون من ادعاءات النصر هذه، مستخدمين ما حدث من قتل ودمار وتشريد ذخيرة لدعم حججهم هذه.

لا نريد ان نقع في فخ حالة الاستقطاب المستعرة حاليا في المنطقة، ونفضل ان نناقش الامور بطريقة اكثر تعقلا، خاصة ان الحقائق بدأت تتضح على الارض، بعد ان توقف العدوان الاسرائيلي على القطاع، ولو مؤقتا، وبدأ الاهتمام ينصبّ حاليا على قضايا الاعمار، والاموال المخصصة لها، والجهة الأنسب للقيام بهذه المهمة.

لنقف في معسكر المناهضين للمقاومة، وحركة "حماس" على وجه التحديد، ونفترض جدلا انها لم تنتصر، او ان نصرها كان باهظ الثمن، فإن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو عما اذا كان الطرف المعتدي هو الذي انتصر في هذه الحرب، وحقق كل اهدافه من ورائها؟

علمتنا تجارب الحروب السابقة ان الطرف المنتصر يحقق اهدافه في نهاية المطاف، ويفرض شروط الاستسلام على الطرف الآخر الذي لا يجد امامه اي خيار آخر غير القبول، والتوقيع على الوثائق المقدمة امامه دون مناقشة، مثلما حدث في نقطة صفوان، وبعد هزيمة العراق في حرب عام 1991، او معاهدة فرساي الشهيرة بعد الحرب العالمية الاولى، وهناك امثلة عديدة في هذا الصدد. فهل وقعت فصائل المقاومة الفلسطينية صكوك الاستسلام هذه، بعد ان رفعت الراية البيضاء، ورضخت لشروط المنتصر؟

الاجابة قطعا بالنفي، فالمقاومة ظلت تدافع عن ارضها وكرامة شعبها حتى اللحظة الاخيرة، ولم تطلب مطلقا وقف اطلاق النار وفق شروط المعتدي، ورفضت المبادرة المصرية بصيغتها المطروحة، وابدت تحفظاتها عليها دون تردد، الامر الذي دفع القيادة السياسية الاسرائيلية الى اتخاذ قرار وقف العدوان من جانب واحد، وسحب جميع قواتها من قطاع غزة تقليصا لخسائرها السياسية والعسكرية.

نستطيع ان نقول، وباطمئنان المؤمن، ان اسرائيل لم تكسب هذه الحرب عسكريا، وخسرتها سياسيا، وخرجت منها الطرف الاضعف، رغم ما خلّفته من دمار واعداد كبيرة من الشهداء والجرحى، ودليلنا على ذلك كما يلي:
اولا: اذا كانت اسرائيل هي الطرف المنتصر فعلا، فلماذا تستجدي العالم بأسره لارسال فرقاطاته لمراقبة سواحل قطاع غزة، ولتوقيع اتفاقات امنية مع الادارة الامريكية لمنع تهريب الاسلحة الى القطاع؟
ثانيا: من الواضح ان اسرائيل تتعامل مع قطاع غزة، وحركات المقاومة فيه، كما لو انها دولة عظمى تهدد الامن الاسرائيلي، وتملك قدرات هائلة، في الحاضر او المستقبل، يمكن ان تشكل في مجملها تحديا وجوديا للدولة العبرية.

ثالثا: ضخّمت العجلة الدعائية الاسرائيلية بشكل مبالغ فيه مسألة أنفاق رفح، واجرت وما زالت تجري اتصالات مع دول عظمى، ومع الحكومة المصرية، لتعزيز الاجراءات الامنية على الحدود، واستيراد احدث ما انتجته التكنولوجيا الحديثة لتوظيفها في هذا الخصوص. فطالما ان اسرائيل انتصرت، والمقاومة هزمت، فلماذا لم تحتل القوات الاسرائيلية ممر صلاح الدين، او فيلادلفي، مثلما كان عليه الحال قبل انسحابها، وتتولى هذه المسؤولية بنفسها، ودون الحاجة الى الآخرين؟

رابعا: الحروب تتم في معظم الاحيان لتحقيق اهداف سياسية للذين يتخذون قرار اطلاق الرصاصة الاولى، وتجييش الجيوش لخوضها، فما هي الاهداف السياسية التي حققتها القيادة السياسية الاسرائيلية من هذه الحرب، فهي لم تغير سلطة "حماس" في القطاع، ولم تمنع اطلاق الصواريخ، ولم تعد سلطة رام الله الى سرايا القطاع (مقر الاجهزة الامنية).

خامسا: من المفترض ان تكون اسهم المنتصرين في هذه الحرب قد ارتفعت في استطلاعات الرأي قبل اسبوعين من الانتخابات الاسرائيلية العامة (ستجرى يوم 10 شباط/فبراير المقبل)، ولكن ما نراه ان اسهم اليمين الاسرائيلي بزعامة بنيامين نتنياهو الذي لم يخض هذه الحرب هي المرتفعة (29 مقعدا حتى الان) بينما تنخفض اسهم حزب "كاديما" بزعامة تسيبي ليفني (26 مقعدا)، اما ايهود باراك وزير الدفاع الذي كان يحصي عدد المقاعد الاضافية التي حصل عليها حزبه (العمل) في هذه الحرب، بينما كان الفلسطينيون يحصون جثث شهدائهم، فالمؤشر البياني يؤكد تحسنا بسيطا في حظوظه الانتخابية، وهو تحسن مرشح للتراجع في كل يوم يتكشف فيه حجم الكارثة السياسية التي لحقت بالدولة العبرية على الصعيدين الداخلي والخارجي.

من يريد تثبيت النصر الاسرائيلي، وهزيمة المقاومة في قطاع غزة هم حكومات دول محور الاعتدال، وليس ابناء الشعب الفلسطيني، والشعوب الاسلامية قاطبة التي انتصرت لصمود المقاومة، ونزلت الى الشوارع بالملايين لاظهار مساندتها، وادانتها لمواقف انظمتها المتخاذلة، الامر الذي يؤكد تواطؤ هذه الحكومات مع العدوان، والتقاء اهدافها مع نظيرتها الاسرائيلية في حلم القضاء على آخر ثغور المقاومة المسلحة في فلسطين المحتلة.

لنكن صريحين، ونعود بالأمور الى بداياتها، فالمقاومة في قطاع غزة لم تقل ابدا انها ستفتح تل ابيب، وتحرر المسجد الاقصى وكنائس القدس المحتلة، وكل ما قالته في ادبياتها انها ستتصدى لاي عدوان اسرائيلي بكل ما اوتيت من قوة، وهذا ما فعلته بإعجاز غير مسبوق في اي معارك سابقة داخل الاراضي المحتلة، باستثناء صمود الابطال المدافعين عن مخيم جنين في مواجهة عدوان اسرائيلي مماثل، وللهدف نفسه.

هذه المقاومة تشكل مصدر قلق مشترك لأنظمة الاعتدال العربية واسرائيل، لانها تجمع بين أمرين أساسيين وهما: الارادة والايمان الداعم لها. فالغالبية الساحقة من الانظمة العربية تفتقد الى الاثنين معا. وهذا ما يفسر هرولتها الى الولايات المتحدة في السابق، واسرائيل الآن، لخوض حروبها نيابة عنها، مع تغطية النفقات كاملة من ارصدة شعوبها وأجيالها المقبلة، فلجأت الى امريكا لتخليصها من "خطر" النظام العراقي السابق، وحركات المقاومة الاسلامية والقومية التي ظهرت في العراق كرد فعل على الاحتلال، وها هي تلجأ الى اسرائيل لتخليصها من الحركات الاسلامية في القطاع، على أمل ان تنجح اسرائيل فيما فشلت في تحقيقه في حربها صيف عام 2006 على جنوب لبنان.

أليس غريباً ان يتوحد العالم الغربي بأسره مع اسرائيل والسلطة الفلسطينية ودول محور الاعتدال العربي حول هدف واحد هو كيفية منع وصول أسلحة الى المقاومة في قطاع غزة؟ الا يعكس "تحالف الخائفين" هذا مدى أهمية، وخطورة، وتميز هذه المقاومة، مما يحتم ضرورة الالتفاف حولها ومساندتها؟

نقول، وباختصار شديد، ان الخاسر الأكبر في "حرب غزة" الاسرائيلية هو اسرائيل وأنصارها في الغرب، وحلفاؤها القدامى ـ الجدد في الوطن العربي. فيكفي ان هؤلاء وإعلامهم في حال دفاع عن النفس، وهذه ليست من مواصفات المنتصرين في الحروب. فالعالم الغربي، ونحن نتحدث هنا عن الشعوب، أو قطاع عريض منها في حالة غليان وغضب شديد، يترجم عملياً في مسيرات احتجاجية، وجهات قانونية تطالب بلجان تحقيق في جرائم الحرب، والاستخدام المفرط لأسلحة محرمة دولياً، ودعوات متزايدة للتعامل مع اسرائيل كدولة عنصرية مارقة، اسوة بالنظام العنصري السابق في جنوب افريقيا، ومقاطعة كل منتوجاتها.

حتى الاعلام الغربي الذي كان السلاح الاسرائيلي الاقوى للتضليل وتشويه الحقائق، بدأ ينقلب تدريجياً وبسرعة ضد اسرائيل، واصبح اللوبي اليهودي المؤيد لها يلوذ بجحوره بعد ان خسر زمام المبادرة كلياً. فقد انقلب السحر على الساحر.

من حق المقاومة وبعد كل ما تقدم ان تعلن انتصارها في هذه الجولة، وان تواصل استعداداتها لجولات مقبلة، وعلينا ان نتذكر جميعاً ان المؤشر البياني لحروب اسرائيل في هبوط، بينما مؤشر المقاومات العربية والاسلامية في صعود. فقد انتهى الزمن الذي كانت تكسب فيه اسرائيل جميع حروبها، ولسبب بسيط هو ان خصومها ليسوا جنرالات متكرشين تتلألأ اوسمة الهزائم على صدورهم، وانما هم أناس امتلكوا أهم مقومات النصر: الايمان والارادة.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات