الازمة السورية:قراءة في الابعاد الاقليمية والدولية


بدأت الاحتجاجات في سوريا لأسباب داخلية كثيرة، اهمها ترهل بنية السلطة بعد أكثر من خمسة عقود من الحكم الاوتقراطي، وتفاقم الفساد، واللبرلة الاقتصادية التي أضرت بفقراء الريف والمدن، إلا ان للازمة أبعاد أخرى إقليمية ودولية لعبت دورا مؤثرا في محاولة استغلال حركة الاحتجاج هذه لتحقيق أهداف سياسية وإستراتيجية في إطار صراع أوسع يشمل منطقة الشرق الأوسط والعالم.
ففي اثر النجاح العسكري الذي فتح الناتو به مؤخرا البوابة الليبية المؤدية الى افريقيا، ممهدا الطريق أمام الولايات المتحدة كي تنقل مقر القيادة الإفريقية من المانيا الى القارة السوداء بعد ان أزيل نظام القذافي الذي كان قد عارض هذه الخطوة، كما عارض الاتحاد المتوسطي الذي تقوده فرنسا.تعد أمريكا والناتو لنقل نقطة التركيز من شمال افريقيا الى المشرق العربي للتعامل مع العقبة السورية الأخيرة الماثلة أمام هيمنها الإقليمية.بيد ان عوامل جيوسياسية وإستراتيجية داخلية وإقليمية ودولية تحيل سوريا الى خط احمر استنادا الى المعطيات التالية:
1- على الصعيد الداخلي تبدو البنية التحتية للدولة قوية، والمؤسسة الحاكمة متماسكة وموحدة، وكذلك الحال بالنسبة للجيش وقوى الأمن.كما ان سوريا دولة ليست مثقلة بالديون، وهي مكتفية من حيث النفط والمواد الغذائية والاستهلاكية.
2- ان التنوع التعددي للأقليات الدينية والطائفية السورية الكبيرة يحرم المعارضة الإسلامية وخاصة الإخوان المسلمين الدور الريادي الذي تمتعت به في احتجاجات ما سمي"الربيع العربي" في تونس ومصر واليمن. وعلى عكس التوقع ان يكون تغيير الأنظمة العربية حافزا الى تغيير مماثل في سوريا،فان التغييرات كانت أمثلة سيئة بالنسبة الى السوريين، فتدمير البنية التحتية للدولة وخصوصا في العراق وليبيا، وترك زمام صنع القرار الوطني في أيدي الناتو وأمريكا لا تراهما أغلبية السوريين بما فيهم أغلبية قوى المعارضة الوطنية في الداخل ثمنا مقبولا للتغيير، وهي أمثلة تنفر الطبقة الوسطى في المدن الرئيسية وتجعلها تحجم عن دعم الاحتجاجات المطالبة بتغيير النظام، وهو ما يفسر فشل هذه المعارضة في تسيير ولو تظاهرة واحدة من النوع الذي اخرج ملايين الناس الى الشوارع في تونس ومصر واليمن بالرغم من حملة التحريض التي تقوم بها قنوات فضائية متعددة مرتبطة بأجندات أمريكا والغرب .كما أدى لجوء بعض الحركات وخاصة من الإسلاميين الى السلاح الى نفور عموم الناس ولا سيما الأقليات، واظهر مصادر هؤلاء الإسلاميين الخارجية من المال والسلاح، وهو ما عزز القول بوجود مؤامرة خارجية وهو ما يبدو قائما بالفعل.
3- ان احتمال ان تفقد إيران جسرها السوري الى البحر المتوسط، وان تتعرض طرقها الى هذا البحر الاستراتيجي للإغلاق بفعل الأساطيل الأمريكية وأساطيل الناتو واسرائيل والحكومات الموالية للولايات المتحدة سيعزز مخاطر نشوب حرب إقليمية، كما ان التدخل العسكري في سوريا لن يكون مدرجا على الأجندة الآن الا في حال وجود ما يضمن بقاء الكيان الصهيوني خارج متناول رد إيراني وسوري متوقع.
4- ان فشل ما سمي الرعاية الأمريكية لعملية السلام يبرر عقيدة المقاومة عند سوريا ويبرر تنسيقها الدفاعي الاستراتيجي مع ايران، ويضفي مصداقية على قناعات سوريا بان الولايات المتحدة والناتو يدعمان المحتجين باسم التغيير والاصلاح، لكنهما في الواقع يستغلان الاحتجاجات لتغيير النظام واستبداله بنظام أكثر استعدادا لقبول الاملاءات الإسرائيلية الامريكية ، وهو الأمر الذي صرح به برهان غليون رئيس ما يسمى "المجلس الانتقالي" قبل أيام عندما أبدى استعداده لقطع العلاقات مع ايران وحركات المقاومة في المنطقة والدخول مع إسرائيل في مفاوضات حول الجولان في حال وصول مجلسه الكرتوني الى السلطة في سوريا، وهي نفس الطلبات التي تقدم بها كولن باول بعد الاحتلال الأمريكي للعراق ورفضتها سوريا وأمريكا في أوج قوتها،فكيف يمكن أن تقبلها وأمريكا تتراجع تحت وطأة فشلها الذريع في العراق ، والأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعيشها.
5- بعد اضطرار أمريكا الى الانسحاب من العراق نتيجة الاستنزاف الذي أصابها بسبب المقاومة العراقية والتي دعمتها سوريا وايران، وتفجر الأزمة الاقتصادية، بات الحلم بالسيطرة على الشرق الأوسط دونه صعوبات، فالعراق يقوم الان بالحلول محل تركيا كعمق استراتيجي لسورية، مقدما حلقة ارتباط إستراتيجية بين الحلفاء في دمشق وطهران وهو ما يمهد لظهور تحالف استراتيجي بين هذه الدول الثلاث،سيقلب موازين القوى في المنطقة والعالم في غير صالح امريكا والغرب، خاصة بعد قيام تركيا بتراجعها عن تعاونها مع سوريا، واشتراكها في خطط الناتو والولايات المتحدة بشان سوريا.
6- على المستوى الدولي يمثل حق النقض الذي مارسته كل من روسيا والصين في مجلس الأمن إشارة الى ان سعي أمريكا والناتو الى تغيير النظام السوري يعتبر خطا احمر لهما؛ ففقدان روسيا التسهيلات الموفرة لبحريتها في سوريا يجعلها خارج البحر المتوسط ليصبح بحيرة للولايات المتحدة. أما الصين فترى ان سقوط سوريا لتصبح منطلقا لأعمال عدائية لإيران سيكون بمثابة تهديد حقيقي لشراكتها مع ايران ، وستجعل العملاق الاقتصادي الصيني تحت رحمة شركاء الناتو في حال نجحوا في تامين سيطرتهم على ايران وسوريا؛ لان هذه السيطرة ستؤمن أيضا تحكمهم في احتياطي النفط الاستراتيجي في كل من الشرق الأوسط واسيا الوسطى . وإستراتيجية أمريكا قائمة على منع القوى البرية الصينية والروسية من الوصول الى البحر المتوسط والمحيطات، وقد أصبحت ايران نقطة تقاطع روسي صيني لتحقيق اختراق في الشرق الأوسط الأمريكي في ظل عجز السعودية ومصر عن تشكيل ائتلاف يقف في وجه تمدد ايران على ضفاف شرقي البحر المتوسط والبحر الأحمر عبر علاقتها بسوريا وحزب الله وحماس، فكان على الولايات المتحدة اعتماد حليف يمسك بالشرق الأوسط لصالحها، فاستثمرت علاقاتها الطيبة بالجماعات الاسلامية منذ الخمسينيات، وكان يمكن وفقا للحسابات الامريكية ان يحتوي الإسلام" السني" إسلام ايران" الشيعي"، وان يشكل تسليم الحكم في الدول العربية وتركيا الى إسلاميين سدا منيعا في وجه ايران ومن ثم في وجه الصين وروسيا، وكان الدور المرسوم لتركيا في ظل العدالة والتنمية هو ان تقود الوطن العربي ضمن هذا التوجه، فتتحد ثلاث عواصم سنية وهي أنقرة، والرياض، والقاهرة في مثلث يمنع الاختراق الإيراني، وفي هذا الاطار كان الربيع العربي في تونس ومصر وليبيا واليمن في جزء منه عملية نقل للسلطة الى قوة جديدة هي الإخوان المسلمين يمكن ان تؤدي الدور المطلوب منها لصالح الامريكيين في مواجهة روسيا والصين، فكان التصور الفرنسي – الأمريكي يقوم على قلب النظام السوري لانه يشكل بتحالفاته اختراقا للمثلث السني.
7- ان الدول التي تدعم الاحتجاجات في سوريا هي دول طالما دعمت اسرائيل ووفرت لها شروط البقاء، وهي التي احتلت العراق ونهبت ثرواته، واما تركيا فلديها مصالح أخرى على رأسها ان تصبح دولة كبرى بعد سنوات، وهي التي كانت تريد رأس المقاومة الوحيدة التي أذلت اسرائيل في لبنان، وهي لا تريد من كل هذا الصراع في سوريا سوى تامين مصالحها ومصالح اسرائيل معها وفق تعويم النموذج الاخواني في المنطقة بشراكة أمريكية تركية قطرية.واخر ما يهمها الاصلاح في سوريا.
نعتقد ان هذا هو السياق الاستراتيجي الجيوسياسي الذي يجهد فيه التحول السوري المؤيد للديمقراطية في محاولة النجاة من وسائل الولايات المتحدة والناتو غير الديمقراطية والهادفة الى اسقاط سوريا كدولة وتمزيقها الى كيانات متقاتلة.خاصة
ان المعارضة الوطنية السورية التي تدرك أبعاد هذا المخطط وأغلبية الشعب السوري والنظام الحاكم مجمعون على الإصلاح الجوهري والعميق لبنى ومؤسسات الدولة من خلال برنامج وطني متكامل يلبي طموح الشعب العربي السوري في الانتقال الى "الجمهورية الثانية" من خلال الحوار والإجماع على رفض عسكرة الاحتجاجات، ورفض كل أشكال التدخل الخارجي، والسير في طريق تمكين المجتمع المدني، واعتماد التعددية السياسية، وإنهاء احتكار حزب البعث للسلطة، واقرار قوانين متقدمة للأحزاب والانتخاب والاعلام، وكبح الفساد السياسي والاقتصادي، وقد صدرت مراسيم متتالية لتنفيذ جميع هذه الإصلاحات ووفق برنامج زمني سيشرع الأبواب امام أفق مدني ديمقراطي مقاوم، غير ان الولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين يصرون على خلق وقائع على الارض تمكنهم من التدخل للحيلولة دون تطبيق رزمة الإصلاحات الوطنية، الى حين إرغام سوريا على الإذعان كي يقايضا دعمهما لهذه الإصلاحات بأجندة السياسة الخارجية السورية القائمة على شبكة من التحالفات الإقليمية والدولية التي مكنت سوريا من الصمود في وجه ما يملى عليها من شروط لصنع سلام مع الكيان الصهيوني بشروط هذا الكيان، وفك ارتباطها الاستراتيجي مع ايران، وحركات المقاومة في لبنان وفلسطين، وهو ما يبدو بعيد المنال.
Abuwasfi@yahoo.com



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات