وين عن العبدلي؟


مجمع العبدلي- عندما كان مجمعا- له في الوجدان معزة خاصة، وفي الذاكرة بقايا خلايا تتشبث بالبقاء دون جدوى؛ فإذا كنا في جلسة ما وأخذ أحدنا يصف لنا موقعا في عمان لا نعرفه ولا ألفة لنا به مثلا، فإننا نبادره بالتساؤل فورا: وين عن العبدلي؟ وقد يكون هذا الموقع على مشارف أبو نصيرأو على تخوم أبو علنده. فالعبدلي كان غاية ومنطلقا في الوقت نفسه؛ فالوصول إليه يعد الجزء الأول من مشوارنا، والذي ننطلق منه إلى سفارة ما، أو لتصديق أوراق من الخارجية، أو لشكوى نضعها بين يدي سكرتيرة أحد المعالي لا نعلم مستقرها بعد أن ندير ظهورنا-أي الشكوى-.
وبعد الانتهاء من المهمة التي من أجلها ذهبنا إلى عمان نعود قافلين إلى العبدلي ليكون في استقبالنا نغم شجي بصوت جهوري وعال لأحد الكنتروليه وهو يهتف: إررررررررربد إربد، مع التركيز على تكرار حرف الراء عدة مرات برتم موسيقي خاص. وهنا من الشائع أن يقترب أحد منك، وما إن يقترب فمه من أذنيك حتى يغريك بقوله: إربد بدينار، راكب واحد، فتكتشف أنه شوفير أحد باصات الكيا يلتقط الركاب من المجمع، في أثناء عودته بعد الانتهاء من دوامه إلى إربد أو جرش أو الرمثا مثلا. وليس من المستبعد في هذا الوقت من معايشة مشادة لفظية بين أحد الباعة وآخر قد تتطور إلى تشابك بالأيدي أو فضها بالحسنى بعد تدخل الموجودين الذين لامعرفة لهم بأي من المتخاصمَين. وقد تستهويك رائحة الموالح التي تحمّص على عرباية مركونة في إحدى زوايا المجمع، يجاورها كشك لبيع القهوة والنسكفيه والسحلب، وكرابيج حلب. تقابلها عرباية أخرى لبيع الذراية، وأخرى لبيع الترمس والبليلا. وقد يلفت نظرك العبارات المكتوبة على هذه العربايات مثل: عين الحاسد تبلى بالعمى، مع كف ذي لون أزرق مدلاة في المقدمة. مؤكدة بعبارة أخرى على عرباية ثانية: يا ناظري بعين الحسد أشكيك لواحد أحد. ومعززة بالمعنى نفسه في عرباية ثالثة بمناشدة أولي الضمائر الحية: يا ناس يا شر كفاية قرّ.
وفي ليلة الخميس عبرة الجمعة يتهيأ الباعة لجلب ما سيبيعونه غدا بحيث يكون سوق الجمعة متعة للتسوق الحر؛ بالة وشماشير ورابش، خضراوات وفواكه، ملابس ولادي ستاتي رجالي، عتق وأجهزة وأدوات مستعملة، أحذية ستوكات أوروبية. وغير ذلك مما يشعرك أن باستطاعتك شراء كل ما يلزمك من هذا المجمع في مشوار واحد. إنّ ما يميز سمة الشراء هنا هو الطمأنينة في نفوس المشترين؛ حيث لا يخاف المشترى من التعرض إلى الغبن أو الضحك على لحيته لأن الأسعار في سوق الجمعة زهيدة، ولا تشكل عبئا ثقيلا على جيب المشتري حتى لو تم استغفاله من قبل أحد الباعة- فمثل هذا قد يحدث- فقد يشتري أحدهم بنطلونا من البالة مثلا بنصف دينار، وفي لمح البصر يضع البائع البنطلون في كيس أسود، فيفاجأ المشتري عند وصوله البيت أن البنطلون ينقصه السحاب على سبيل المثال. أو أن زوج الأحذية الذي اشتراه يتفق في اللون ولكنه يختلف في النمرة- فمثل هذا قد يحدث أيضا-. لذا، لابد أن يتمتع المواطن، عند ولوجه هذا السوق، بنفاذ البصيرة، وقراءة ما بين العيون، والاستناد إلى أساليب متنوعة للمناورة والمفاصلة والمجادلة، إضافة إلى عدم التسرع في اتخاذ القرار، زد على ذلك الخبرة المتراكمة في معاينة البضاعة؛ فمثلا، إذا أردت شراء جوارب مستعملة، فعليك بدس كفك في الجورب، ومن ثم فرد أصابعك الخمسة وهي في الداخل إلى أقصى ما تستطيع؛ إن هذه الاستراتيجية تجدي نفعا في التأكد من خلو الجورب من أي خزوق أو تشققات-هذا على سبيل المثال لا الحصر.
وبالعودة إلى مجمع العبدلي، فلا بد من الإشارة هنا إلى أننا أخذنا موقفا سلبيا من مجمع طبربور الذي لا تربطنا به أي علاقة وجدانية أو عاطفية بسبب بعده، وعدم تحقيقه أهدافنا التي تستدعي في أغلبها المرور في صويلح. وكذلك افتقاده إلى الكاريزما الخاصة التي كان يتمتع بها العبدلي والتي تكونت عبر سنين وسنوات عديدة. المهم، لم يتبق لدينا من ذاك الزمن الجميل الذي ولى إلى غير رجعة سوى توابعه ومتعلقاته، والقصد هنا الحنين الذي يلازمنا والشوق الساكن في خلجات مشاعرنا ونفوسنا إلى دوار صويلح. فما أن ينتهي دوامنا أو مهمتنا حتى نيمم شطر صويلح تلقائيا دون أن يلقي-بعصنا- بالا أو اهتماما إلى أي مجمع آخر.
في هذه الأيام، أقرأ طراطيش كلام عن شبهات فساد واسم العبدلي مذكور فيها. ولكن، ما هو الموضوع بالتحديد فلا علم لي بذلك. إن شاء الله يظل العبدلي وكل حبة تراب في وطني طاهرة لايطمثها فاسد ولا حاسد أو مأجور.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات