صَنائِعُ المَعْرُوفِ تَقِيْ مَصِارِعُ الْسُوءِ


كمْ مِنْ بليةٍ غائبةٍ في رحمِ الغيبِ , أجهضها معروف بذلته , أو هم فرجته , أو حاجة قضيتها , أو محنة أزحتها , واسمع يا أخي ويا أختي إلى محمد بن الحنفية – رحمه الله – حين يجزم قائلا بأن ( صانعَ المعروفِ لا يقعُ وإذا وقعَ لا يَنْكَسِرُ )
بل ويقسم سيدُنا عليٌّ بن أبي طالب – رضي الله عنه - في كلمات تلمح فيها بريق الوحي , وتشم منها رائحة النبوة , فيقول : { والذي وسِعَ سمعُه الأصواتَ , ما مِن أحدٍ أودعَ قلبًا سرورًا , إلا خلقَ اللهُ تعالى من ذلك السرورِ لطفًا , فإذا نزلتْ به نائبةٌ , جرى إليها كالماء في انحداره , حتى يطردهَا كما تُطْرَدُ غريبةُ الإبل}
لقد أمر الله - سبحانه وتعالى - بفعل المعروف , وفعل الخيرات , والمبادرة لعمل الصالحات ، وجعل الحسناتِ مذهبةً للسيئات ، وبين نبيُّه - صلى الله عليه وسلم - أنَّ عملَ المعروفِ من مكارم الأخلاق ومن أجل الصدقات وأعظم القربات إلى الله تعالى وهو الذي مدحه ربه جل في علاه لكمال خلقه فقال: ((وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)) [القلم:4]
لقد حثَّنا نبينا - صلَّى الله عليه وسلَّم - على صنع المعروف , ومن ذلك : ما رواه أهل السنن ، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - : أنَّ رجلاً جاء إلى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم – فقال : يا رسول الله ، أيُّ الناس أحب إلى الله؟ وأي الأعمال أحب إلى الله ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : { أحبُّ الناسِ إلى اللهِ - عزَّ وجلَّ - أنفعُهم للناسِ، وأحبُّ الأعمالِ إلى الله سُرور تدخله على مُسلم ، أو تكشفُ عنه كُربةً، أو تقضيَ عنه دينًا، أو تطردَ عنه جوعًا ، ولإنْ أمشي مع أخ لي في حاجةٍ , أحبُّ إلِيَّ من أن أعتكفَ في هذا المسجد شهرًا - في مسجد المدينة - ومن كفَّ غضبَه ستر الله عَوْرته ، ومن كَظَم غضبه، ولو شاء أن يُمضيَه أمضاه، ملأ اللهُ قلبَه رخاءً يوم القيامة ، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتَّى تتهيأَ له ، ثبَّت الله قدمه يوم تزول الأقدام }.
لذا صح الخبر عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه حثَّ أمَّتَه على صنع المعروف ، وعرّفهم سبله وكيفيَّته ، وعرَّفهم فضله ومزيته ، فقال بأبي هو وأمي : «صنائعُ المعروفِ تقي مصارعَ السوءِ , والصدقةُ تطفئُ غضبَ الربِ , وصلةُ الرحمِ تزيدُ في العمرِ , وكلُ معروفٍ صدقةٌ , وأهلُ المعروفِ في الدنيا هم أهلُ المعروفِ في الآخرةِ , وأهلُ المنكرِ في الدنيا , هم أهلُ المنكرِ في الآخرةِ , وأولُ مَنْ يدخلُ الجنةَ , أهلُ المعروفِ »
وأهل المعروف في الآخرة وحدهم من يكسوهم الله , ويطعمهم الله , ويسقيهم الله , ويغنيهم الله , قال سيدنا عبدا لله بن مسعود – رضي الله عنه - : { يُحشَر الناسُ يومَ القيامةِ أعرى ما كانوا قطُّ , و أظمأ ما كانوا قطُّ , وأنصب ما كانوا قط , فمن كسا لله كساه الله , ومن أطعمَ لله أطعمه اللهُ , ومن سقا لله سقاه الله , ومن عمل لله أغناه الله }
والمعروف أيها الأخوة والأخوات : هو كلُ إحسانٍ إلى عباد الله , من قرض حسن ,أو بر , أو هدية, أو صدقة , أو إعانة على قضاء حاجة , أو تحمل دين أو بعضه ، والستر على المسلم , والذب عن عرضه وإقالة عثرته , وإدخال السرور عليه , وإذهاب همِّه وغمِّه، وإعانة العاجز والأخرق، وإسعاف المنقطع ، وإعانة المحتاج ، أو غير ذلك من سُبل الإحسان .
وإليكم صورًا ومواقف َمن حياة المتصدقين في العصر الحاضر :
أثناء سجن الكاتب المصري المعروف مصطفى أمين سنة 1965 م , رئيس تحرير جريده " الأخبار " صدر قرارًا بمنعه من الأكل والشرب , لإجباره على تغيير مواقفه , وكلنا يعلم أن الأكل يمكن الاستغناء عنه لفترة , أما العطش , فهو عذاب لا يحتمل , وكان الجوُّ حارًا جدًا , وهو مريض بالسكر , ومرضى السكر يشربون الماء بكثرة.

في اليوم الأول , لم يجد ما يشربه , فشرب من ماء الاستنجاء الموجود في الحمام أعزكم الله , وفي اليوم التالي , وجد الإناء خاليا , لأنهم اكتشفوا انه يشرب منه , حتى انه اضطُرَّ أن يشرب من ماء البول – أكرمكم الله – لفرط عطشه , وفي اليوم الثالث , لم يجد ما يشربه حتى البول , بسبب الجفاف الذي كان يعاني منه , وبينما هو يدور كالمجنون في زنزانته من شدة العطش , و قد أصابه الإعياء وبدأ يترنح , فإذا بباب الزنزانة يُفتَح بهدوء , ثم رأى يدًا تمتد في ظلام الزنزانة , تحمل كوبَ ماءٍ كبير مثلج ؟ تصور في بادئ , أنه هذيان أو غيبوبة السكر , مدَّ يده ليتناول الكوب , فوجد ضالته , ماءً باردًا ! رفع رأسه فإذا بحامل الكوب يضع أصابعه على فمه , وكأنة يقول له لا تتكلم , اشرب الماء بسرعة . شرب الماء وهو غير مصدق لما حدث , ويقول : إنَّه ألذُّ كوب ماء شربه في حياته . ثم اختفى ذلك المجهول بسرعة , ولكنَّه عرف ملامح وجهه , وعندما خرج في الغد للتريُّض خارج الزنزانة , رأى الذي سقاه بالأمس وعرفه , فهُرِعَ إليه مهرولا ليسأله : أأنت الذي ... ولم يدعه يكمل ...نعم فقال له : لماذا فعلت ما فعلت ؟ لو كانوا ضبطوك لربما فصلوك من عملك , فقال الحارس : يفصلونني فقط ؟ إنهم سيقتلونني رميٍا بالرصاص , إذًا ما الذي جعلك تقوم بهذه المخاطرة ؟ قال : إنني أعرفك وأنت لا تعرفني , منذ 9 سنوات تقريبا , أرسل فلاح في الجيزة خطابا إليك يقول فيه : إنه فلاح في إحدى القرى النائية وكلُّ أمنينه , أن يشتريَ جاموسة ليعيلَ أسرته , ويعيشَ على خيرها , وانه مكث 7 سنوات يقتصد في قوته وقوتِ عياله , حتى جمع مبلغًا من المال , ثم باع مصاغ زوجته , واشترى بالمبلغ جاموسه , وبعد فترة وجيزة , ماتت الجاموسة, و حزن عليها حزنًا شديدًا , حكى لك ذلك الفلاح قصته , وتمنى عليك , أن تهديه جاموسه بدل التي ماتت , وبعد شهور قليلة , دُقَّ باب البيت الصغير الذي يملكه الفلاح , فإذا فتاةٌ تجرُّ وراءها جاموسة , تقول : أنا محررة من جريدة ( أخبار اليوم ) هذه الجاموسة مهداة من الأستاذ مصطفى أمين رئيس تحرير الجريدة . وكانت(جريدة أخبار اليوم ) قد اعتادت أن تحقق أحلام المئات من قرَّائها في ليلة القدر , في شهر رمضان المبارك من كل عام - ثم تابع حديثه قائلاً : هذا الفلاح الذي أرسلتم له الجاموسة منذ 9 سنوات هو أبي !!!
قصةٌ أخرى حدثت منذ أكثرَ من مئة عام تقريبًا ، فهي واقعية وليست محض خيال ، يقول صاحب القصة ويدعى ابن جدعان : خرجت في فصل الربيع ، وإذا بي أرى إبلي سماناً , يكاد أن يُفجِّر الربيعُ الحليبَ من ثديَّها ، كلَّما اقترب الحوار - ابن الناقة - من أمِّه دَرّت وانفجر الحليب منها من كثرة البركة والخير ، فنظرت إلى ناقةٍ من نياقي وابنِهَا خلفها , وتذكرت جارًا لي له بُنيَّات سبع بنيات ، فقير الحال ، فقلتُ : والله لأتصدقنَّ بهذه الناقة وولدِها لجاري ، والله - عز وجل - يقول : )لنْ تنَالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون( [آل عمران:92] وأحب مالي إليَّ هذه الناقة ، فيقول : أخذتها وابنَها , وطرقت الباب على جاري , وقلت خذها هدية مني لك ، فرأيت الفرح في وجهه , لا يدري ماذا يقول ، فكان يشرب من لبنها ويحتطب على ظهرها , وينتظر وليدها يكبر ليبيعه , وجاءه منها خير عظيم .
فلمَّا انتهى الربيع , وجاء الصيف بجفافه وقحطه , وتشققت الارض ، شددنا الرحال نبحث عن الماء في الدحول - والدحول : هي حفر في الأرض توصل إلى محابسَ مائيةٍ , لها فتحات فوق الأرض - يعرفها البدو يقول : فدخلت إلى باطن الدُّحل لأُحضرَ الماء حتى نشربَ , وأولادي الثلاثة خارج الدحل ينتظرون , فتهت تحت الأرض , ولم أستطع الخروج , وانتظر الأبناء يومًا , ويومين وثلاثة , حتى يئسوا وقالوا : لعل ثعبانًا لدغه ومات , لعله تاه تحت الأرض وهلك , وكانوا - والعياذ بالله - ينتظرون هلاكه طمعًا في تقسيم المال والحلال ، فذهبوا إلى البيت وقسَموا الميراث ، فقام أوسطهم وقال : أتذكرون ناقة أبي التي أعطاها لجاره ، إن جارنا هذا لا يستحقها ، فلنأخذْ بعيرًا أجربًا فنعطيَه الجار , ونسحب منه الناقة وابنها ، فذهبوا إلى جارهم ، وقرعوا عليه باب الدار وقالوا له : أعد الناقة خيرًا لك ، وخذْ هذا الجمل وإلا سنسحبها عنوة ولن نعطيك شيئا .
قال : أشتكيكم إلى أبيكم . قالوا : اشكِ إليه ، فإنه قد مات . قال : مات ! وكيف مات ؟ ولم لم أعلم بذلك؟ قالوا : دخل دِحلاً في الصحراء ولم يخرج . قال : ناشدتكم الله , اذهبوا بي إلى مكان هذا الدُّحل ، ثم خذوا الناقة وافعلوا ما شئتم , ولا أريد جملكم ، فلما ذهبوا به , ورأى المكان الذي دخل فيه صاحبه الوفي ، ذهب وأحضر حبلاً ، وأشعل شمعةً ، ثم ربطه خارج الدحل ، فنزل يزحف على قفاه حتى وصل إلى مكان يحبوا فيه وآخر يتدحرج ، ويشم رائحة الرطوبة تقترب ، وإذا به يسمع أنينًا ، وأخذ يزحف ناحية الأنين في الظلام ويتلمس الأرض ، حتى وقعت يده على الرجل ، فإذا هو حي يتنفس بعد أسبوع تحت الأرض ، فقام وجرَّه ، وربط عينيه حتى لا تنبهر بضوء الشمس ، ثم أخرجه معه خارج الدحل ، وأطعمه وسقاه ، وحمله على ظهره ، وجاء به إلى داره ، ودبت الحياة في الرجل من جديد ، وأولاده لا يعلمون ، قال لي الرجل : أخبرني بالله عليك , أسبوع كامل تحت الأرض و لم تمت ! فقلت : سأحدثك حديثاً عجباً ، لما دخلت الدُحل ، وتشعبت بي الطرق ، آويت إلى الماء الذي وصلت إليه ، وأخذت أشرب منه ، ولكنَّ الجوع لا يرحم ، فالماء لا يكفي .
يقول : وبعد ثلاثةِ أيامٍ ، وقد أخذ الجوع منِّي كلَّ مأخذ ، وبينما أنا مستلقٍ على قفاي ، وقد أسلمت وفوضت أمري إلى الله ، وإذا بي أحس بدفء اللبن يتدفق على فمي ، فاعتدلت في جلستي ، فإذا بإناء في الظلام لا أراه يقترب من فمي , فأشرب حتى أرتويّ ثم يذهب ، فأخذ يأتيني في كل يوم ثلاث مرات ، ولكنه منذ يومين انقطع ، لا أدري ما سبب انقطاعه ؟ فقال لي : لو تعلم سبب انقطاعه لتعجبت ! ظن أولادك أنك مت ، وجاءوا إليَّ وسحبوا الناقة التي كان الله يسقيك منها .
والمسلم في ظل صدقته ، قال الله تعالى : (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً*وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِب ) أرأيتم كيف تخرج الرحمةُ وقتَ الشدة !
ضاقت فلَّما استحْكَمَتْ حَلَقَاتُها فُرِجَتْ وكنتُ أظُنُّهـا لا تُفْرَجُ








تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات