الإحباط سرطان الأوطان


لم يمرّ الوطن في لحظة من لحظاته بمثل ما هو عليه من سوء في هذه الأيام العجاف من تاريخه ،كل شيء فيه يدعو إلى الإحباط واليأس والقهر والتقوقع والارتكاس ، وليس من علاج سوى القول ( حُط راسك بين الروس ...) وصور الإحباط الوطنيّ كثيرة ، وتندُّ عن الحصر ؛إحباط في كل مفاصل حياتنا العملية والعلمية ، إلى درجة أن سوسة الإحباط بدأت تسري في سنبلة الروح ، وتشرب من عرق المخلصين والمثابرين.وتقضم إنجازاتهم ،لقد انتقل الإحباط من الخارج إلى دواخلنا ، بعد أن هيّأت له مؤسساتنا الوطنية متكأ وسريرا ليضطجع عليه بإجراءاتها القاصرة ، وحلولها الوقتية المتسرعة ، وهبّاتها العشوائية ( البلديات نموذجا )،إلى درجة أن فَقَدَ المواطن ثقته بالوطن ، وأخذت تترسّخ مفاهيم ذاتية ،وعشائرية ،لتنوب عن الوطن في حمايته والمحافظة على ممتلكاته ، لذلك لا غرابة ،حين نتابع الاحتفالات المليونية والمئوية وجمع التواقيع للتعبير عن الفزعة الوطنية كلما نادى المنادي هاتفا ( وين راحوا النشامى ) لقد تحوّل مفهوم الوطن ،وتقزّم بصورة مؤذية ، وارتدّ (مَن استطاع )عن فكرة بناء الدولة المدنية المتحضرة لصالح القبيلة ،والانضواء تحت جناحها إحساسا منه بالأمن والأمان ، وأنها القادرة بغياب الأحزاب عن أخذ حقه ، ثم لم يكتف بهذا بل أخذ يفكر بالحصول على وسائل دفاعية تصدّ عنه المخاطر المتوقعة ،وذلك بشراء السلاح وإشهاره ( على الفاضي والمليان ) لحظة إحساسه بأن كرامته قد هدرت ، حتى ولو كان ذلك من خلال مخالفة مرورية ، أو الاصطفاف على الدور ،وهي تصرفات قد تبدو مبرّرة بما أن الدولة أخذت تتخلى عن هذا الجانب المهم من مسؤولياتها المباشرة .كلنا الآن نعمل في مؤسساتنا بغض النظر عن درجاتنا الوظيفية على نظام دوام المياومة ، والشاطر الحصيف الذكي الفهلوي من ينهي يوم دوامه على خير وسلامة ، لعدم وجود خطط عمل واضحة ، وانعدام الرؤى المستقبلية لتطوير الإنتاج ، وتحفيز المبدعين ،فلا أنشطة ولا علاقات عمل ، ولا مبادرات إبداعية تشعرك أنك فرد ضمن مجموعة تفكر في دفع عجلة الإنتاج إلى الأمام ؛ أكداس من ذوي البطالات المقنعة يملئون ممرات الدوائر والأدراج، ويتنافسون يوميا لتدمير مؤسساتهم التي تحتضنهم مضطرة لعدم الحاجة إليهم ، وهم على الرغم من ذلك يسعون بشتّى الوسائل لتغيير مسمياتهم الوظيفية طمعا في الحصول على كرسي وطاولة في أي مكان .
المؤسسات التعليمية كذلك محبطة ، المدارس متهرئة ومهلهلة ، والتعليم المدرسي والجامعي في حالة هبوط نحو هاوية الجهل ،وهذه الطوابير الألفية من العاطلين عن العمل ولا عمل ولو يؤمن لهم السيجارة وبطاقة شحن ، والمعلمون أمام الضغط النفسي والاقتصادي ابتكروا أساليب جديدة للمعيشة ليس أولها فتح بسطة على (كيرف شوارع) ،وليس آخرها شراء باص كيا لنقل أمتعة العمال الوافدين وأدواتهم .
إدارات الجامعات محبطة ‘ لأنها حتى الساعة لم تستطع ،ولن تستطيع ،ضمن شروط الواقع الاجتماعي المتخلف ، والضغوط الهائلة ،أن تقدم علاجا ناجعا لقضايا العنف الطلابي ، بعد أن تطورت وسائلهم من استخدام اللسان إلى استخدام القنوة والشبرية وأبو سبع طقات والسيف ...وسيأتي يوم قريب لنسمع فيه عن استخدام الطلبة لأسلحة الدمار الشامل .
وترى صورة الإحباط لدى المتقاعدين العسكريين فهم محبطون ،لذلك يطالبون جاهدين بتحسين ظروفهم المعيشية ،رغم مكارمهم المتعددة : مقعد جامعة ،ومقعد سيارة بدون جمارك ، ومقعد في سكن كريم. ولا أدري ماذا يقول المتقاعدون المدنيون القاعدون بلا مقاعد إذا ؟!!
حالة الإحباط المجتمعي هي السبب الرئيس في كل الجموع المؤنثة السالمة : الاعتصامات والمشاجرات والعصبيات والاحتجاجات وزعيق الفضائيات والمسيرات والمليونيات ...
إنني أقترح ـ بصفتي نقيبا للمحبطين ،أمرين ، لعل وعسى ، أن ننقذ سنافير المحبطين من أبنائنا ،مما هم فيه من بوادر الإحباط ، الذي هو سرطان الأوطان ، وهما القانون وبناء المواطن من جديد على أساس المواطنة والانتماء الحقيقي ،ثم لا بدّ من تهيئة المجتمع وإعادة ثقته بمواطنيه من جديد وفق خطوات إجرائية ،وتاريخ زمني محدد لمعالجة كل مظاهر الإحباط ،و تحقيق العدالة ،وتكافؤ الفرص ،والتصدي للفساد والمفسدين ،مهما كان الثمن الوطني باهظا ،وتوليد قناعة لدى المواطن بأنه مواطن محترم ،حيثما كان ،ومن أي المنابت والمشاتل هو .كما أن له حقوقا كفلها له الدستور ،وفي المقابل عليه واجبات يجب الالتزام بها .إننا نشاهد يوميا بعض مظاهر الاستقواء على أبناء الوطن الواحد ، إلى الحد الذي تولّدت لدينا قناعة بأن بعض المتنفذين أقوى من الدولة وقوانينها ،وهو أمر نتعامل معه يوميا ،ولا ينكره إلا منافق , وهذه الجماعة المتنفذة تصادفها أينما تذهب . وعند فتح أي ملف: في المركز الأمني والمحكمة وديوان الخدمة المدنية وفي المناقصات والتعهدات والعطاءات ومجالس الإدارات .
وثانيا لا بد من صياغة العقل الوطني ثانية ، وبخاصة بعد مرحلة ( البرسيم العربي) وتأهيله ،لاستقبال عصر جديد ،ورؤية وطنية جديدة للإصلاح ، ترتكز على تعزيز قيم المواطنة وحرية التعبير والاعتقاد .
إن التحدي الحقيقي حاليا هو :هل نحن قادرون على ترميم التشظي المجتمعي القائم الذي يسير بنا إلى هاوية حقيقية نشهد بوادرها هذه الأيام ؟ من يعيد المواطن المهمش والهامشي إلى المتن وإلى أعلى الصفحة من جديد ؟ This is the question



تعليقات القراء

مواطن زهقان
نعم والله يادكتور لقد قلت الحقيقة كل الحقيقه .... لقد فقدنالا الثقة بكل شئ واصابنا الاحباط وفقدنا الامل والثقه بالوطن والدولة وكل شئ
02-11-2011 02:10 PM
الكاشف
...بدنا انشوفك وزير اول............
02-11-2011 02:45 PM
معك
كلام صحيح
28-07-2014 03:50 AM

أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات