التغيير هو الثابت الوحيد


سئل شوان لاي رئيس وزراء الصين في منتصف القرن الماضي ، وأحد حكمائها عن رؤيته للعالم في نهاية القرن الفارط بتعبير أشقائنا المغاربة ، وبداية القرن الحادي والعشرين، فكان رده كما يروى عنه : فوضى ، وتحالفات جديدة ، وسينقلب الأعداء أصدقاء ، والأصدقاء أعداء . شيء من هذا بالفعل يحدث في عالم اليوم . قبل انهيار جدار برلين أواخر النصف الثاني من عام 1989 كان العالم مقسوما الى معسكرين متصارعين ، المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفييتي السابق ، والمعسكر الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية . كانت أشكال الصراع ظاهرة ، واتجاهات بوصلته محددة جغرافيا وسياسيا وعقائديا . انهار الاتحاد السوفييتي والمعسكر الذي يقوده لأسباب عدة ،أهمها شمولية نظامه السياسي ، وتركيزه على العدالة الاجتماعية، واهمال الديمقراطية . بقيت أمريكا القطب الوحيد ، وتولدت قناعة بأن الرأسمالية فازت في الصراع ، وخرجت الى حيز الوجود نظرية "نهاية التاريخ" ، وهذا كان أول الأخطاء ، وسوء التقدير . فالتاريخ لا يتوقف،وتوقفه يعني توقف الحياة ذاتها ،التي هي في صيرورة دائمة. كما أن الصراع على الأسواق والموارد الطبيعية سمة مميزة للأنظمة الرأسمالية. فما أن انهار الاتحاد السوفييتي حتى اخترعت أمريكا عدوا أسمته الارهاب، لتبرير الاستمرار في اختراع أسباب الحروب وشنها. ولتأمين الغطاء الأيديولوجي اللازم أتبعت نظرية "نهاية التاريخ" بنظرية "صدام الحضارات" .استغلت الولايات المتحدة أحداث 11 أيلول 2001 ،وشنت حربين على افغانستان والعراق المنهكين أصلا بالحروب والحصار ،كلفتاها كثيرا على صعيد الخسائر البشرية والمادية بالاضافة الى الكلفة الأخلاقية العالية،وساهمتا الى حد كبير بافلاسها. صحيح أن أمريكا ما زالت تمتلك عناصر القوة الأولى في العالم ،لكنها تتخبط في أزماتها الاقتصادية ،ونفوذها في حالة انكفاء . فمن دروس التاريخ وعبره ، أن العسكرة الزائدة كانت دائما من أهم أسباب انهيار الامبراطوريات . النظام الرأسمالي بقيادة أمريكا يعاني من أزمات خانقة ، بدءا بانفجار "الفقاعة العقارية" في وول ستريت عام 2008 وصولا الى أزمة الديون التي انفجرت في اليونان عام 2011 مهددة الاقتصاد الأوروبي برمته. وعلى الصعيد الاقتصادي أيضا تعاني الدول الصناعية المتقدمة مثلها مثل الدول الضعيفة المتخلفة من مشكلة المديونية الضاغطة التي تجاوزت الخطوط الحمر في بعض الدول. فالولايات المتحدة على سبيل المثال مدينة ب14 تريليون دولار ،وهذا الرقم الفلكي يفوق ناتجها المحلي الاجمالي.ويعاني النظام الرأسمالي أيضا من مشكلة تركيز الثروة في أيدي قلة قليلة من الأفراد والشركات على حساب الأغلبية الساحقة ،حيث يملك 358 مليارديرا أكثر مما يملك مليارا انسان. والنتيجة اتساع مساحات الفقر ، وانهيار الطبقة الوسطى ، وارتفاع وتيرة الاحتجاجات الساخطة ضد الافقار ، وتقليص مخصصات التأمينات الاجتماعية ،والنهب وفرض الضرائب . وفي الآونة الأخيرة ،وتحديدا في تشرين الأول 2011 عمت هذه الاحتجاجات ما يزيد على ألف مدينة في العالم . وعلى الصعيد الثقافي حل الاستهلاك وثقافة الصورة ومنهج التفكيك محل القيم الانسانية السامية ،والنظريات الفكرية الراقية التي توصلت اليها الانسانية خلال مسيرتها الطويلة ،وأصبح كل شيء محل نقاش ،وقابلا لاعادة النظر. وعلى الصعيد السياسي اختلت الموازين والمعايير معا ، واختلفت التحالفات ،والعالم في حالة سيولة غير مسبوقة . الدولة الأعظم في حالة انكفاء وتراجع ،ولا تلوح في الأفق قوى صاعدة ، قادرة على امتلاك عناصر التحول الى أقطاب عالمية فاعلة في المدى المنظور.
العالم يتغير بالفعل ،وان ببطء ، وهذا هو الثابت الوحيد .أما عناوين هذا الثابت ، فهي الديمقراطية ، وتدفق المعلومات من خلال التسارع المذهل في تطور تكنولوجيا الاتصال . وأعتقد أن المعادلة الأكثر انطباقا على عالم اليوم هي : النظام الاشتراكي بنسخته السوفييتية ركز على العدالة الاجتماعية ولم يأخذ بالديمقراطية ، وكانت النتيجة انهياره ، أما النظام الرأسمالي فقد ركز على حرية الفرد ، وأخفق في تحقيق العدالة الاجتماعية ، وبالتالي فهو الآن يتآكل ، ويتخبط في أزماته . وبما أن التاريخ لا يتوقف ، والانسانية في حركة دائمة ، فانها كالطائر ، بحاجة الى جناحين كي يطير بهما . والجناحان الأنسب بالنظر فيما يجري في عالم اليوم هما ،الديمقراطية، والعدالة الاجتماعية .
وفي عودة لا بد منها الى واقعنا العربي على سبيل المقارنة ، نرى ان التغيير في أمريكا وأوروبا والعالم المتقدم عموما أيا كانت أسبابه واتجاهاته ، محكوم بلغة الحوار ، ومنهج الديمقراطية . أما في عالمنا العربي فان التغيير غالبا ما يأخذ طابعا عنفيا دمويا. ولذلك أسباب عدة أهمها اثنان . الأول: التعددية والديمقراطية بلا أساس في العقل العربي ، والسياسي منه على وجه التحديد ، وهما غائبتان في ممارسة السلطة والسياسة .
أما السبب الثاني فهو أن "القديم" في بيئتنا العربية ، يرفض التغيير، ويقاتل باستماتة لتأبيد واقع رسخه عبر مئات السنين ليقتات منه. والمقصود بالقديم ، الاستبداد والطغيان ، وأبناء عمومتهما من فساد واستنقاع وتكلس وبطريركية أبوية.
ولكن أنى لهذا القديم معاندة حركة التاريخ ، وسنة التغيير ، الثابت الوحيد في مسيرة الحياة الانسانية.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات