مات العقيد، عاش الشعب الليبي


معقولةٌ هذه النهاية.
معقولةٌ أيضا هذه البداية.
لقد حاول العقيد معمر القذافي أن يهرب من ساحة المعركة في سرت، بعد أن تركها دمارا، فاصطاده الثوار قبل أن يفلت. لا تهم التفاصيل. المهم انه مات. ولئن كان من اللطيف أن يُحاكم ليقدم كشف حسابٍ عن جرائم نظامه، ولكن، بالنسبة لظاهرة غوغائية كالظاهرة التي مثلها القذافي، فقد كان من الأنسب أن ننتهي من القصة كلها، وألا نعود نسمع عنتريات ولا هذيانات جديدة.
أعرف إن الكوميديا كان يمكن أن تكسب ببقائه حيا، فرصة عظيمة للضحك على رجل تمتزج في كلامه الشعارات الفارغة، بالسطحية، بفوضى الذهن، إلا أن هذه الكوميديا ما كان لها أن تُضحك أحدا وهي تنز الكثير من دماء الضحايا الذين تساقطوا على امتداد 42 عاما.
وما يزال من غير المعروف كم هو عدد أولئك الضحايا. ولكن الذكريات، والأسماء، والصور ستظل خالدة. وكان من المستحيل للضحك أن يغلب على البكاء. حتى ولو كان القذافي أكبر مسخرة في تاريخ الدول. فهناك أساتذة وطلاب شُنقوا في ساحات الجامعات. وهناك معارضون قتلوا في الشوارع كما تُقتل "الكلاب الضالة". وهناك مواطنون اختفوا ولم يظهر لهم أثر. وهناك الكثير ممن قتلوا في السراديب والسجون تحت التعذيب. وهناك من علقوا على أعمدة الكهرباء لتنير أجسادهم ظلمة القهر الذي فرضه الجلاوزة الثوريون ممن "آمنوا" بالاضطراب العقلي على انه بعثة نبوية.
سوف يحتاج الليبيون عقودا من الزمن قبل أن يجدوا في عقيد الهذيان ما يثير الضحك. يحتاجون أن يروا جراحهم قد اندملت أولا. كما يحتاجون أن يتنفسوا هواءَ حريةٍ نقي، لا تهيمن عليه مشاعر الغضب والمرارة، قبل أن يجدوا في فنتازيا الأزياء والنظرات الشمسية والتحليق الغبي في الفراغ أية فنتازيا.
معقولةٌ هذه النهاية لانها وضعت حدا للمرارة، على الأقل لكي لا يحوّل العقيد محاكمته الى مناسبة لنكء الجراح. وعلى الأقل لكي لا يقدم نفسه كضحية يتشبه بها بغيره، فيرتقي سُلّما لا يستحق أن يرتقيه. وعلى الأقل، لكي نخفف الصداع، فيلتفت الليبيون الى ما هو أهم: إعادة بناء كل شيء في بلادهم.
وهي معقولةٌ أيضا، لانها، كأي معركة أخرى، كان يجب أن تُخلي ساحة الجدل لرواية واحدة؛ رواية تتحمل بمفردها المسؤولية عما سيأتي.
إعادة البناء الحقيقية، لا تستوعب روايات متعددة!
ولكنها معقولةٌ أكثر ليس لأنها شطبت العقيد وشبطت كل ميراثه بما يشبه جرة قلم، بل لأنها طوت صفحة الفوضى والعشوائية والشفاهية.
من المؤكد الآن، على سبيل المثال، إن الليبيين سوف لن يصحوا من نومهم، فجأة، على "زعيم" يتخذ قرارات بناء على كوابيس عاناها في منامه، أو بناء على نزوات طارئة.
من المؤكد الآن، أن الشعب سيجد سبيلا لكي يتعرف على نفسه كمجتمع، لا كقطيع يتبع القائد المهلم، فلتة زمانه، العبقري الفذ، ملك ملوك الغابات، وقائد الثورة العالمية، النبي المرسل الى عاهرات سليفيو برلسكوني لكي يدعوهن الى الإسلام!
لن يكون هناك قائد ملهم!
بطريرك غابرييل غارسيا ماركيز، مات. ومات "جنرال حبي" الذي يخرج من فمه (الخـ...) ويُصدر القوانين من المؤخرة!
معقولةٌ جدا هذه النهاية. كان يجب للبطريرك أن يموت، وأن ينهار جدار العفن الذي يحيط بفساد سلطته، وأن ينكشف الوهم. والملايين التي هدد بها شعبه، لم تأت لنجدته. وبدلا من أن يُلاحق شعبه، بيت بيت، زنقة زنقة، لاحقه الناس، بيت بيت وزنقة زنقة.
وياله من قائد ملهم!
أكان يرى ما سيحصل؟
بعض الطغاة يختارون نهاياتهم بأنفسهم. وكلها، حينما تأتي، معقولةٌ جدا.
ومعقولة هذه البداية. الشعب الذي غاب 42 عاما عن الوجود، سيبدأ، ليبني بلدا من الصفر تماما؛ من لا شيء كليا؛ من لا مؤسسات، ومن لا بنية تحتية. ومن لا نظام، بل وربما من لا فكرة مسبقة، ولا حلول جاهزة.
سيبدأ الليبيون، من مجادلاتهم نفسها، ليتعرفوا على أصواتهم، وليزيلوا أثر الكارثة النووية التي أصابت بلدهم.
فإذا زال الهذيان، كان من الطبيعي أن يُستأنف العقل. وإذا زالت العشوائية، كان من الطبيعي أن تبدأ المؤسسة، وإذا زال راعي المزبلة، ستبدأ أعمال التنظيف والشطف والكنس.
وياله من قائد ملهم!
لقد ترك وراءه شعبا، كلما التفت الى شيء أو مكان، وجده صفرا.
وخير البدايات هي التي تبدأ الأشياء من أولها.
وقد لا يجد الليبيون، في غمرة المأساة، مكانا للضحك على "قائد" جعل من رعونته أداة للحكم. ولكن التاريخ سيملأ قلبه ضحكا!



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات